لم يبق إلا أسابيع تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستسمح باختيار رئيس جديد أو تجديد فترة ساركوزي لمدة خمس سنوات جديدة، وفي هذا الجانب بثت القناة الفرنسية الثانية في إطار برنامجها الشهري "أقوال وأفعال" الذي يديره الصحفي الفرنسي المتميز دافيد بوجداز، حواراً مطولًا مع كل مرشح للرئاسة بما في ذلك السيدة مارين لوبن، زعيمة حزب اليمين المتطرف، وساركوزي مرشح حزب اليمين الحاكم، وفرانسوا هولاند المرشح الاشتراكي، وفرانسوا بايرو مرشح يمين الوسط، وتستدعى لكل حوار شخصيات صحفية بارزة معروفة على الصعيدين الفرنسي والعالمي، ونخب من الحزب المعارض لمجابهة المرشح للرئاسة في جدال يمكن أن يوصف بالشيق والصعب. وقد تابعت جزءاً كبيراً من هذه الحوارات التي أبهرتني فيها قوة العبقرية والدهاء السياسيين لبعض المرشحين والمخططات الاستراتيجية البديلة التي يعرضها كل مرشح في اختلاف بيّن مع خصومه السياسيين، واستحضرت في نفسي القوة العلمية والإقناعية لخطابات المرشحين البارزين وما يجري في الانتخابات العربية في وطننا العربي، وخرجت بعدة قناعات وملاحظات أساسية: 1- واقعية الخطاب السياسي لدى المرشحين، إذ ينطلقون من الواقع السياسي وليس من الخيال السياسي كما هو الشأن عند العديد من المرشحين في الأقطار العربية، وهذا الواقع يفرض على كل مرشح الالتزام بالقوانين السامية للبلد أي الدستور قولاً وعملاً، وقد يعارضون في حملتهم الانتخابية بعضاً من بنوده التي لم تعد صالحة في فرنسا لسنة 2012 على رغم أن الدستور الفرنسي عدل لمرات عدة، ولكنهم لا يتجرأون على تجاوز روح البنود لأن في ذلك تقليلا من أهمية ثقة الشعوب ومبدأ الخضوع الجماعي لرغبة أصوات الناخبين، وهذا المبدأ يجب أن يعمم على كل الأوطان العربية لأن رئيس الحكومة عندما يعين فإنه يصبح رئيساً لكل وزرائه مهما تعددت ألوانهم الحزبية وكثرت انتماءاتهم السياسية وإلا اصطفوا في خانة المعارضة ولم يدخلوا أصلاً في ذاك التحالف الحكومي، فعندما يتحدث رئيس فرنسا فإنه يتحدث لكل الفرنسيين يمينيين كانوا أو يساريين لأن صناديق الاقتراع خولته هذه الصفة، ونفهم هنا مثلاً رد رئيس الحكومة المغربي الصائب في اجتماع مجلس الحكومة الأخير على تشويشات بعض الناس عندما أرادوا زرع الشك في التحالف الحكومي ذاكراً الوزراء المعنيين بالاسم ومشبهاً هذا التحالف بالأسرة أو العائلة الواحدة التي تعيش تحت سقف واحد. 2- عقلانية المقترحات والآراء والاستراتيجيات المعروضة، أما في العديد من الأقطار العربية التي دخلتها آليات الديمقراطية الحديثة، تغلب على تلكم المقترحات التي يعرضها المرشحون في الانتخابات المحلية والتشريعية الشعبوية أكثر من العقلانية، ويخاطبون العوامل الثقافية والدينية التي يجد لها الخاص والعام آذاناً صاغية وتمثل الأطر المؤسسة لحالة الاستقبال الجاهزة للتجاوب خاصة مع الذهنية الشعبية العامة، فتأسيس السياسة يكون في منحى واحد ويبتعد عن التطرق الصحيح والعقلاني لكيفية إصلاح الدولة اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً، وأنا لست في وارد إلقاء اللوم على من يستعمل رموز مرجعيته في مشروعه السياسي، لأن الديمقراطية تقتضي حرية التعبير والمرجعيات، ولكن أنتقد الأحادية في التفكير والابتعاد عن العقلانية وإعمال الفكر الواقعي، والأحزاب السياسية والمرشحون من حقهم أن يختاروا البيئة المثالية للعمل وللاستثمار الحزبي جلباً للأصوات الظاهرة والخفية، والسياسي الحقيقي هو الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، ولكن العقلانية السياسية تقتضي أيضاً تجاوز مصدر التمثلات والمعايير والرغائب التي هي بمثابة المشترك الأكبر بين الناس والطبقات والأجيال، إلى خطب وبرامج عقلانية لا تهدف فقط إلى إشباع الحاجات الروحية والاجتماعية عند الإنسان، ولكن إلى إشباع حاجاته المعيشية والتنموية أيضاً، وهذا هو منطق السياسة الحديثة الذي يخدم قضية التنمية الديمقراطية والمواطنة الكاملة والمساواة بين الجنسين. 3- نضج المقترحات والإلمام بمشاكل الاقتصاد والتنمية والتعليم والاندماج الاجتماعي وغيرها من الأمور اللصيقة بحياة الإنسان اليومية وحياة أبنائه ولعقود طويلة، ولعل أكثر ما راعني في الحملات الانتخابية التونسية والمصرية شعبويتها، ونادراً ما يُتطرق إلى المسائل التقنية في الاقتصاد والتنمية، وغالباً ما يكون المرشحون في حالة عدم إلمام تامة بمقتضياتها وأبجدياتها... والبرامج الخمسة المتتالية التي عرضتها قناة فرانس 2 تؤكد درجة الوعي الاقتصادي والتنموي عند المرشحين باستعمال الأرقام والتفاصيل والحجج الدامغة وإعطاء تجارب الأمم الأخرى كألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، واستحضار فوائد بعض السياسات الاقتصادية على أخرى، صحيح أن المرشحين محوطون بأذكى وأخبر الناس في مجال الاقتصاد ويقضون الليالي الطوال في كتابة السيناريوهات والاقتراحات والبرامج، ولكنهم هم أيضاً أضحوا أكثر خبرة من الخبراء أنفسهم، فثلاث ساعات من الحوار غير المتقطع مع العشرات من الصحفيين والمنافسين في الأحزاب الأخرى توحي لك بجلاء هذا الاستنتاج، بمعنى أن الدولة تبرز إلى الأمام نخبة من المرشحين ذوي الكفاءات والخبرة العلمية لتحمل مقاليد وتعقيدات الحكم في زمن لم يعد يرحم الزلات والهفوات وضياع الوقت. أما الدول العربية فتعج بخبراء وتقنيين ذوي كفاءة عالية للخوض في تفاصيل التفاصيل ولكن يبقون في الحواشي أو على الهوامش وقل من يدفعهم إلى الواجهة، ولا تدفع الأحزاب إلا من لهم شعبوية أو يجيدون الخطاب الشعبوي مع كل ما في ذلك من تبعات سلبية. الواقعية والعقلانية والنضج مبادئ ثلاثة في الرأسمال السياسي الصحيح، وبدونها تحل الشعبوية وقِصر النظر وهلاك البلاد والعباد، على رغم قدرة الشعبوية على التعبئة التجييشية... وأملي أن تحل هذه الواقعية الجديدة عند المرشحين في العالم العربي وفي الأحزاب السياسية عند مخاطبتها للجمهور الأوسع من الشعب وسعيها للنفاذ إليه.