على وقع تصفيق حار، شاركت فيه المستشارة ميركل ونواب من مختلف الأحزاب، قال الرئيس الألماني الجديد "يواخيم جاوك"، عقب تنصيبه يوم الجمعة الماضي: "أود أن أطلب منكم جميعاً هدية، ألا وهي ثقتكم". وكان جاوك قد حصل بالفعل على ثقة مخاطبيه قبل خمسة أيام من تنصيبه، وفي الشوط الأول، بأصوات 991 من أصل 1228 هم أعضاء البرلمان وممثلو الولايات الخمس عشرة في ألمانيا الاتحادية، كونه مرشح الإجماع الذي توافقت عليه الأحزاب الرئيسية في البلاد، وهي "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، و"الاتحاد الاجتماعي المسيحي"، و"الحزب الديمقراطي الحر"، و"الحزب الاشتراكي الديمقراطي"، و"تحالف 90"، و"حزب الخضر". وخلال كلمته المؤثرة في "الرايخستاج"، تعهد جاوك الذي أصبح الرئيس الحادي عشر لألمانيا، بحمايتها من التطرف، وبتوظيف خبرته للوقوف في وجه اليمين المتشدد وسائر الحركات المتطرفة. فجاوك، وهو كاهن مسيحي وناشط حقوقي، يَعتبر أن مسار حياته العامة قد تحدد بموجب انحيازه المبكر للديمقراطية وحقوق الإنسان، ولذلك فقد لقي فوزه ترحيباً في الشارع وفي وسائل الإعلام الألمانية، ووصفته "دير شبيجل" بأنه "أفضل رئيس"، بينما قالت صحيفة "بيلد" إنه "رئيس القلوب". وقد ولد "يواخيم جاوك" بمدينة روستوك الساحلية في شرق ألمانيا، عام 1940، وعايش في طفولته أهوال الحرب العالمية الثانية، وشاهد قنابل الحلفاء وهي تمطر ألمانيا النازية. كما تأثر بمصير عائلته وبنشأته في ظل النظام الشيوعي الشمولي، حيث عانى في سن الحادية عشرة من نفي النظام الحاكم في ألمانيا الشرقية لوالده إلى معسكرات العمل في سيبيريا. وكان الوالد ضابطاً بحرياً وقائد سفينة، لكن بعد الاحتلال السوفييتي للجزء الشرقي من ألمانيا ووصول الشيوعيين إلى السلطة في ذلك الجزء الذي أصبح "جمهورية ألمانيا الديمقراطية"، تم اعتقال الوالد بتهمة التجسس، لتنقطع أخباره عن العائلة أربع سنوات، قبل أن تقرر موسكو الإفراج عن آلاف الألمان من المعتقلين وأسرى الحرب العسكريين والمدنيين لديها. ووفقاً لجاوك، فإن تلك المحنة العائلية شدته لدراسة الصحافة، لكن لأنه رفض الانضمام لحركة الشبيبة الشيوعية، لم يسمح له بدراسة الإعلام، فاختار دراسة اللاهوت، وأصبح قسيساً في الكنيسة البروتستانتية بـ"مكلنبورج"، وكان ذلك عملاً صعباً في حينه لما يكنّه النظام الشيوعي من عداء للكنيسة. ثم برز القس اللوثري "جاوك" بوصفه مناهضاً للشيوعية وداعية للحقوق المدنية في أواخر الثمانينيات، فشارك في تأسيس "المنتدى الجديد"، وهو أحد أكبر فصائل الثورة الشعبية السلمية، وانتخب ناطقاً باسمه. وحينئذ اضطر النظام لإدخال إصلاحات ديمقراطية، شملت تنظيم أول انتخابات برلمانية تعددية في مارس 1990، حيث فاز "جاوك" بمقعد نيابي على لوائح مرشحي "تحالف 90". وبعد إعادة توحيد شطري ألمانيا، تم انتخابه من البرلمان الاتحادي كأول مفوض فيدرالي لمحفوظات جهاز أمن الدولة، حيث بقي في هذا المنصب لولايتين مدتهما عشر سنوات، نال خلالها تقديراً كبيراً لجهوده في فضح جرائم الشرطة السرية الشيوعية السابقة. واشتهر "جاوك" بدعواته لزيادة الوعي حول جرائم الشيوعية في أوروبا، ولمحاكمة مجرمي الشيوعية، وضرورة نزع الشرعية عن عهد الحكم الشيوعي، وكتب عن معسكرات الاعتقال خلال الحقبة السوفييتية، وعن القمع السياسي في ألمانيا الشرقية، وكان أحد الموقعين على إعلان براغ حول "الضمير الأوروبي" إلى جانب فاسلاف هافل، وكذلك "الإعلان عن جرائم الشيوعية"، كما ساهم في تأليف "الكتاب الأسود للشيوعية". وفي كتابه الصادر بداية العام الجاري، "دفاعاً عن الحرية"، يدعو "جاوك" لحماية الحريات العامة وحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم. وقد وصفته ميركل بأنه "المعلم الحقيقي للديمقراطية، والداعية الذي لا يمل ولا يكل من المناداة بالحرية والعدالة"، كما قالت عنه صحيفة "ووسل ستريت جورنال" الأميركية إنه "آخر القادة من سلالة حركات الاحتجاج وراء الستار الحديدي الذين قادوا التحول الديمقراطي في بلدانهم". واستمراراً لهذا التاريخ الحقوقي والديمقراطي، أسس "جاوك" في عام 2003 جمعية "ضد النسيان- من أجل الديمقراطية"، وخدم في مجلس إدارة المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية وكراهية الأجانب بين عامي 2001 و2004، ونال العديد من الأوسمة والجوائز التقديرية، بما فيها جائزة "حنة أرندت" لعام 1997. وإلى ذلك فقد بدا "جاوك" زاهداً في المناصب خلال الأعوام الماضية، حيث رفض تولي رئاسة الوكالة الاتحادية للتربية المدنية، واعتذر عن عروض بترشيحه للبرلمان عن "الحزب الديمقراطي الاشتراكي"، وعرض آخر من "الاتحاد الاجتماعي المسيحي" بترشيحه للرئاسة، وكذلك "الحزب الديمقراطي الحر". إلا أنه قبل في عام 2010 خوض السباق الرئاسي عن "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" و"تحالف 90" و"حزب الخضر"، لكنه خسر بفارق ضئيل أمام مرشح الائتلاف الحاكم "كريستيان وولف". وبعد أن استقال وولف الشهر الماضي، عقب فضيحة تتعلق بتحقيق في أمواله الشخصية وتربحه من بعض المصالح والخدمات التجارية، تعين على ميركل هذه المرة أن تتعايش مع "جاوك"، السياسي المستقل، والذي أيدته المعارضة من يسار الوسط، وكذلك حلفاء ميركل من الليبراليين أيضاً. وثمة ما يجمع ميركل بجاوك، فهي ابنة كاهن مسيحي، كما تنحدر من ألمانيا الشرقية، وإن وجوده في الرئاسة، وهي منصب بروتوكولي قليل الصلاحيات في النظام السياسي الألماني، لا يشكل تهديداً لهيمنتها على السياسة الوطنية. ومع ذلك فإن سلطته المعنوية، واستقلاله الفكري والسياسي، يجعلانه شريكاً محرجاً لحكومتها المرهَقة بمحاولة التغلب على الأزمة الاقتصادية في أوروبا. بيد أن ثمة انتقادات عديدة وجهت لجاوك بعد انتخابه، حيث اعتبر بعض رفاقه السابقين أنه غير جدير بمنصب الرئاسة، وشككوا في كونه ناشطاً حقوقياً سابقاً، واتهمه قس من قادة المعارضة في ألمانيا الشرقية سابقاً بركوب موجة الاحتجاجات الشعبية والبروز بعد سقوط جدار برلين وليس قبله. كما هاجم اليسار مواقفه المنتقدة لحركة "احتلوا وول ستريت" المناهضة للرأسمالية، واعتبروا أن الفضل في شعبيته يعود لمجموعة "شبرنجر فيرلانج" الإعلامية العملاقة المعروفة بتوجهاتها المحافظة، وصلاتها الوثيقة بـ"المحافظين الجدد" ودفاعها عن إسرائيل. كما انتقد بعض المهاجرين والأجانب معارضته لتجمع أقيم الشهر الماضي، بدعوة من سلفه "فولف"، لتأبين ضحايا أتراك قتلتهم عصابة من النازيين الجدد. وذكّروا بمرافقته ميركل خلال تقليدها وسام الاستحقاق للرسام الدانماركي صاحب الرسوم المسيئة، وتصريحات أخرى عبّر فيها عن تفهمه لانزعاج المواطنين الأوروبيين تجاه المسلمين في بلادهم! فعلى هذا الجانب من الرأي العام الألماني، لم يسمع "رئيس القلوب" تصفيقاً حاراً كذلك الذي رافق كلمته في "الرايخستاج"! محمد ولد المنى