في انحدار خطير لمستوى التفكير الرسمي العربي أو التفكير القيادي العربي في مرحلة معينة، سمعنا يوماً نظرية غريبة عجيبة تقول بعد هزيمة العرب في الحرب ضد إسرائيل عام 67:"لقد خسرنا الحرب وبقي النظام"! وكأن ربح بقاء النظام هو أهم من ربح الحرب أو أقل كلفة من خسارتها. والخسارة هذه لا نزال ندفع ثمنها منذ ذلك الوقت إنْ على مستوى الأحداث والتطورات التي نعيش أو على مستوى أولوية الحفاظ على النظام. وبالتالي على مستوى التراجع السياسي والتربوي والثقافي والاقتصادي والمالي رغم الإمكانات الهائلة التي تملكها دولنا. الأولوية، في بعض البلدان، كانت ولا تزال لنظام الحكم، للسلطة، رغم كل محاولات وإدعاءات تلميع صورة الأنظمة وتبرير كل عوامل التراجع وعدم تحقيق تنمية مستدامة وعدالة اجتماعية واطلاق حريات وتطوير مؤسسات وإحداث تغييرات بنيوية في التركيبات القائمة، بالاستعدادات لمواجهة إسرائيل ولم تحصل إلا المواجهة في لبنان الذي دفع ثمناً كبيراً ولا يزال. ولبنان كان البلد الديمقراطي الوحيد في المنطقة مع خصوصية الديمقراطية فيه المنطلقة من تنوع سياسي وطائفي وثقافي. والمفارقة أن هذا الدور المواجه بتعقيداته وامتداداته الإقليمية والدولية جعل النظام اللبناني الوحيد هو الذي يتغير. وجعل الحياة السياسية اللبنانية تتغير نحو الأسوأ، بسبب تنامي الحالتين الطائفية والمذهبية، وتراجع دور الدولة وهيبتها ومؤسساتها وتبقى الأنظمة الأخرى المحيطة به كما هي، حتى العام الفائت، رغم أن الجميع كان يتحدث عن طموح للتغيير في اتجاه مزيد من الديمقراطية والمثال في هذا المجال كان لبنان. لبنان وُضعت اليد عليه. لزم للعرب في مرحلة، ولسوريا في المرحلة الأطول منذ عام 75 وحتى خروج الجيش السوري منه. لبنان استمر ساحة تتم عليها وحولها البازارات السياسية والإقليمية والدولية، استمر ساحة للتصادم حيناً وللتفاهم أحياناً. التصادم على أرض لبنان والتفاهم على حسابه ضماناً لبقاء الأنظمة المحيطة واستمرارها بعيدة عن المواجهة مع إسرائيل. اليوم نحن أمام نظرية جديدة غريبة عجيبة هي الأخرى أيضاً، أن يسقط الكيان لا مشكلة. المهم ألا يسقط النظام. أن تسقط الدولة لا مشكلة المهم أن لا يسقط النظام. وأخطر تجليات هذه النظرية، وهذا الواقع هو ما يجري في سوريا بعد الذي جرى في تونس وليبيا ومصر واليمن مع فارق نسبي في كيفية حصول التغيير هنا وهناك وآفاق هذا التغيير. نعم، سوريا تحترق، ولم تعد العملية عملية مواجهة خلايا إرهابية كما يقول النظام ويردد مؤيدوه علناً ومعظمهم يقول عكس ذلك في جلسات التحليل والتقييم الداخلي لما يجري هناك. لقد أصبحنا أمام حرب تدميرية شاملة تتعرض لها وتعيشها مدن سورية بكاملها. هذه المدن تُضرب، تدمّر، تهجّر العائلات منها. ترتكب مجازر بشعة بحقها، تزرع أحقاد في نفوس الناس. تفتح الأوضاع فيها على مزيد من احتمالات العنف والخراب والدمار. لا يكفي ولا يبرر عنوان مواجهة الإرهاب هذه الكلفة وهذه النتيجة، وكأن السلطة لا علاقة لها بما يجري. هذا غير صحيح. ولا يصدقه أحد. اليوم نحن أمام مشهد عنوانه: فلتسقط سوريا في الحرب ليبقى النظام. فلتسقط الدولة في سوريا وليبقى النظام. وليقم الخراب والدمار ليبقى النظام. لم تكن هذه النظرية مقبولة في الحرب مع إسرائيل، فكيف ستكون مقبولة في الحرب ضد المواطنين الأبرياء، أو بينهم؟ ولماذا يبقى نظام أو سلطة إذا سقط الكيان وسقطت الدولة؟ ماذا ينفع الناس؟ ما يجري اليوم في سوريا تجاوز حدود المنطق والعقلانية، فلا حكمة في اللجوء إلى كل الأساليب لضمان بقاء حكم فقط في ظل هذه النتائج الكارثية على الأرض، وتداعياتها الخطيرة التي لم تظهر بالكامل بعد. لقد خسرنا الحرب مع إسرائيل وبقي النظام. هكذا كانوا يقولون. اليوم ماذا يفعلون؟ لا حرب مع إسرائيل. بل حرب في الداخل تستفيد منها إسرائيل التي تقول: "لا أخوض حرباً مباشرة. هم يهددون أنفسهم، يقتلون بعضهم. يسقطون بعضهم، يهددون كيانهم. الجيش العربي السوري صورته مهتزة، هو مستنفر منذ أكثر من عام، ومنهك منذ أكثر من عام. يتنقل من مدينة إلى مدينة وتحرق الأرض وما عليها من حجر وبشر. وتفكك داخلي وقلق وتعريب وتدويل وتشابك بين الأمرين وفي النهاية لن يبقى نظام ولا من يحزنون، ولا تبقى إمكانات، والله أعلم ماذا سيجري ولكن سوريا ستبقى تعاني طويلاً، وهكذا سيخسر النظام. لن يبقى النظام وسيخسر دون حرب بل في الحرب الداخلية التي قد تطول لكن نتائجها سلبية بالكامل عليهم"! هل ثمة حكمة ومصلحة وحرص على شعب ووحدته الوطنية ودوره، وسعي لتعزيز إمكاناته وقدراته في مواجهة إسرائيل. وكل ذلك مهدد؟ لا شيء يدوم، والأنظمة مثل الأفراد، تكبر، تشيخ، تمرض، تتعرض لنوبات وهزات وسقطات وبعضها يكون فيه خلل بنيوي ولا يظهر إلا بعد وقت. ولا يقرّ به أصحابه إلا بعد حين، لكن النتيجة واحدة. ثمة أعمار محددة مهما تنوعت الأسباب. وإذا كانت الحروب قد تطيل عمر نظام كما يعتقد البعض فإنها مسألة وقت لا أكثر ولا أقل. هذه هي الحياة. وهذه هي الطبيعة. وليس ثمة من هو قادر على تجاوز هذه الحقيقة مهما استخدم من أساليب وابتكر من وسائل وعانى وكابر وتصرّف وكأن ما يجري أمر عادي! قد تطول الأزمة، وقد نشهد فصولاً سياسية ومبادرات وتحركات وحسماً على الأرض في بعض المواقع لكن نهاية ذلك واضحة وعشنا التجربة في لبنان، وإذا كان ثمة من يجب أن يتعلم منها أكثر من غيره فهم المسؤولون السوريون لأن التجربة اللبنانية هي أغنى التجارب في عمر نظامهم. حرام أن يدفع السوريون هذا الثمن الكبير، وأن تدفع سوريا التاريخ والجغرافيا والتراث والوحدة والدولة والمجتمع هذا الثمن الكبير، وأن تعيش كل هذه الحروب، ويخسر الجميع ليبقى النظام. المعادلة ليست واقعية وليست منطقية.