هناك سمات غالبة على المثقف العربي في الاجتماعات العامة والمنتديات والمؤتمرات الثقافية تجعلها أحياناً بلا جدوى. وهي ليست نمطاً ثابتاً وإلا وقعنا فيما يسمى في الأنثروبولوجيا الغربية "العقل العربي" أو " العقل اليهودي" أو "العقل الغربي". وهي مقولات تكشف عن عنصرية دفينة وتقع في تعميمات غير علمية لها أهداف أيديولوجية. هي استعمار من نوع جديد، استعمار ثقافي، ووضع ثقافة الشعوب المتحررة حديثاً في قوالب ثابتة تجعلها باستمرار في حاجة إلى المستعمر القديم صاحب العقل العلمي الموضوعي. هي سمات تكشف عن لحظة تاريخية معينة تمر بها كل الشعوب النامية، والمثقفون فيها يكوّنون نخبة متميزة. عليهم مسؤولية القيادة والتوجيه. قد يستثنى منها البعض الذي يؤثر الصمت والفرجة، وملاحظة ما يحدث. ويحول موضوع اللقاء إلى كيفية الحديث عنه. هي ملاحظات فعلية ومشاهد واقعية، وليست تأملات نظرية أو افتراضات علمية. كما أنها لا تمثل نقداً للمثقفين بل هي وصف لظاهرة كيف يفكر المثقفون العرب، وأنا واحد منهم، ينطبق عليّ ما ينطبق عليهم، لا فرق بين قـُطر وقـُطر. ولا تكوّن عيباً يجب التخلص منه وعلاجه. بل هي اعتراف بالحالة الراهنة للثقافة العربية حين الممارسة في اللقاءات والمنتديات العامة. ويمكن رصد الملاحظات العشر الآتية: 1- يتحدث المثقف العربي عن نفسه. فهو الأكبر سناً، والأكثر خبرة. كل الحاضرين تلاميذه المباشرون أو من خلال قراءة مؤلفاته. وهو ما يسمى في علم النفس التمركز حول الذات. ينسى الموضوع المطلوب تحليله ويتحدث عن الذات ومدى معرفتها الشاملة به. يصبح هو بديلًا عن الموضوع كما هو الحال في شخصية البطل على خشبة المسرح أو المسرحية ذات البطل الواحد، وتحويل المشاركين كلهم إلى متفرجين. وهو سعيد بذلك. ولولا الملامة لطالب المشاركين بالتصفيق وهو ينظر يميناً ويساراً ليرى أثر خطابه على الزملاء. وينظر أمامه ليرى رد فعل المنصة المسؤولة عن الجلسة على خطابه. 2- يزيح الآخرين إذا ذكره أحد بالإطالة. فهو صاحب الخطاب الأوحد الذي يحمل الحقيقة كلها، وعلى الآخرين الاستماع والتعلم. لا يتوقف عن الحديث حتى لو نبهه رئيس الجلسة من على المنصة. فهو المتحدث والرئيس في وقت واحد. وإذا اعترض عليه أحد الحاضرين لإطالة حديثه أو لمضمونه فإنه يستأنف الحديث ليرد على الاعتراض. فحديثه لا يُرد. وقد يغادر بعدها ولا ينتظر نهاية الجلسة ويستمع للآخرين بعدة أعذار. فماذا سيضيف الآخرون بعد خطابه الذي حوى كل شيء؟ ويتكرر ذلك في كل لقاء حتى أصبح محترفاً للكلام. يعرفه الجمهور ولا يستمع إليه. فالمسرحية لا تـُعاد رؤيتها. ويا حبذا لو كان الإعلام حاضراً يصور الحدث، ويسجل الخطاب، كله أو بعضه، حتى يبلغ الحاضر الغائب. 3- يتحدث خارج الموضوع. فليس المهم هو الموضوع بل الحديث. ومهما ذكر بأن حديثه خارج الموضوع بمقاطعة أحد الحاضرين له أو من رئيس الجلسة فإنه يبرر حديثه بأن هناك علاقة بين ما يتحدث عنه والموضوع، وأن حديثه مجرد مقدمة ضرورية قبل تناول الموضوع. فالمقارنة تفيد. والتقديم تمهيد. وقد لا يكون عالماً بالموضوع ولكنه راغب في الحديث. وإن كان عالماً به فيؤجله إلى نهاية الحديث حتى يزداد شوق المستمعين له. وعادة ما يأتي حل العقدة المسرحية في النهاية، وليس في البداية. ويتحدث الحاضرون مع بعضهم بعضاً مللاً من الخطاب. ومع ذلك يستأنف الحديث دون توقف حتى يصبح هو المتكلم الأوحد والسامع الأوحد حتى يمل هو أيضاً من سماع نفسه. ويصبح هو المتكلم بلا سامع. 4- يتعالم في الحديث. ويذكر أسماء الأعلام العربية والأجنبية ليبين سعة معلوماته، وتنوع مصادره. ويا حبذا لو أرفق ذلك بمصطلحات أجنبية معربة مثل أيديولوجيا، إبستمولوجيا، أنطولوجيا، أكسيولوجيا. وقد يستعملها في أصولها الأجنبية، الإنجليزية أو الفرنسية، ليبين مصادر تعليمه وأصول ثقافته الأجنبية التي لا تعتمد فقط على الموروث الثقافي العربي الذي يشارك فيه كل الحاضرين. وما زال في اللاوعي العربي أن ثقافة الغرب الوافدة أكثر تمدناً وتحضراً من الثقافة العربية الموروثة. 5- يكرر الحديث أكثر من مرة. فلربما لم يقتنع أحد بما قال في المرة الأولى أو لم يستمع إليه جيداً. وقد يتم التكرار بنفس الصيغ البلاغية أو قد تتغير التشبيهات والأمثلة. فالإنشاء لا نهاية له. الكلام هم ورغبة وشوق. فلابد أن يفرّج عن همه، ويحقق رغبته، ويعبر عن شوقه. الكلام مع الحبيب لا ينتهي. والتكرار سمة بلاغية في الإنشاء العربي. فكل صيغة لها خصائصها. كما أن الترادف لا وجود له. فكل لفظ له نوعيته وظلال معانيه. 6- يتخفى وراء العبارات الإنشائية والصياغات الأدبية والقدرة على الإلقاء. يؤثر بالشكل دون المضمون. فالألفاظ قائمة بذاتها. والخطاب تركيبات لفظية دون مضمون. والمضمون يمكن التعبير عنه بأقصر العبارات وأقل الألفاظ. تحول الخطاب إلى بالون كبير بداخله مجرد هواء مضغوط. لم تعد للألفاظ معانٍ ولا للخطاب دلالات. فليس المقصود هو الفكر بل القول. لا يتوجه إلى العقل بل إلى اللسان الأذن. لذلك غلبت على الخطاب العربي الإنشائية في ثقافة بلاغية. تبدأ من اللفظ وتعود إليه. والتكرار هو أساس التقليد، تكرار المحدثين للقدماء، وهو أساس التلقين، تكرار الطلاب للأساتذة. 7- يبدأ خطابه بأن ما يقوله مهم جداً لم يسبقه إليه أحد حتى يسترعى الانتباه. وفرق بين الخطاب العادي المكرر المعروف والخطاب الاستثنائي الإبداعي. ربما يكون الجديد في الصوت، انخفاضاً أو ارتفاعاً. وعادة ما يكون ارتفاعاًً أكثر منه انخفاضاً. فإذا ما دقق المستمع أين تكمن أهمية الخطاب فلا يجد. والخطاب المهم لا يحتاج إلى كل هذا الطول والذكاء العملي. الأهمية تقدير المستمع وليس حكم المتكلم. ولو كان بمثل هذه الأهمية لاستمع إليه الحاضرون. ولدخلوا في حوار معه ونقاش وتبادل للرأي. 8- ويمتلئ الخطاب بالماينبغيات التي تبدأ بفعل "يجب". فما أسهل إذا ما غاب تحليل الواقع المشاهد أن يهرب المتكلم إلى المثال، ما ينبغي أن يكون. فما أسهل التمني والأمنيات. وبالتعبير الشعبي "أبو بلاش كتر منه". فالماينبغيات لا تكلف شيئاً، ولا سقف أو حدود لها. كلها كلام في الهواء. تعبر عن طموحات المستمعين وتحقيقها على مستوى القول والاستماع. لذلك قال أحد المصلحين "ما أكثر القول وأقل العمل". وحذر القرآن من ذلك )يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنوا لِمَ تقولونَ مَا لا تفعلونَ. كَبُرَ مَقتاً عِندَ الله أنْ تقولوا ما لا تفعلونَ). 9- ويتحدث بالعامية وسط الفصحى، وبالفصحى وسط العامية ليرضي الجمهورين، النخبة والجماهير، يتكلم بالفصحى لأنه مثقف عالم أقرب إلى الأزهر أو إلى المجمعي، عضو المجمع اللغوي. ويتكلم بالعامية لأنه ابن بلد لم يفقد جذوره الشعبية. ولا ضير من استعمال بعض الأمثال العامية وإطلاق بعض النكات حتى يضحك المستمعون بدلاً من أن يصيبهم الملل من طول الخطاب وفراغ مضمونه. والعامية جزء من الخطاب المسرحي. 10- يتملق الرئاسة سواء الحاضرة على المنصة أو الهيئة المنظمة للمؤتمر حتى يُدعى مرة ثانية ويظهر أنه "على الخط" دون معارضة أو شغب. يستحسن اختيار الموضوع لحكمة المنظمين وحسن درايتهم ووعيهم بل ووطنيتهم. يعرض خدماته الحالية والمستقبلية كما أدى خدماته الماضية. فهو مستعد لكل المؤتمرات وللإعلام. ولديه كل المبررات الثقافية لما يُطلب منه. وليت تضاف إلى ذلك مكافأة مالية مجزية أو منصب ثقافي إعلامي ما دام قادراًَ على أداء الوظيفة. لا تنطبق هذه السمات العشر على مجموع المثقفين بل على أعلاهم صوتاً، وأكثرهم حضوراً، وأبرزهم اسماً. وإنما لا يخلو مؤتمر أو ندوة أو لقاء منهم. وسيستمر ذلك إلى حين، حتى تنتقل الثقافة من مرحلة الإعلام إلى مرحلة العلم، من مرحلة القول إلى مرحلة الفكر. وقد يحتاج ذلك إلى عدة أجيال.