يخاف كثير من الناس حدوث أي تغيير في حياتهم، وهم يؤثرون الطمأنينة والاستقرار على أي تبديل قد يطيح بهما، وقد صمتت بعض الشعوب العربية عقوداً على ما تعانيه من استبداد وفساد لحرصها على الاستقرار والأمان وهما الإنجاز الأكثر حضوراً فيما قدمته الدول الأمنية التي حكمت بالقوة وحدها، وقد أذعنت الشعوب العربية لأنظمة الحكم الديكتاتورية سنوات طويلة لخوفها من أن تكون الفوضى هي البديل. وكان بعض المفكرين القدامى يحلمون بالحاكم المستبد العادل، ولكن الاستبداد نقيض العدل وهما لا يجتمعان، وقد قيل "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة"، ولكن السلطات العربية المستبدة أمعنت في الاستبداد، وأصابها من الغرور ما حجب عنها الرؤية، وبعض الحكام المستبدين صاروا أشد غروراً من فرعون (ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، وأغلب الظن أن أولئك المستبدين يعتقدون أنهم على حق، وهم يصطنعون المسوغات لتبرير ما يفعلون، وحسب العرب أن تكون عندهم قضية فلسطين لتمد بعض الحكام المستبدين بالحجج والذرائع عن كل تقصير يقعون فيه، فـ"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، حتى وإن كان صوت هذه المعركة عندهم خافتاً لا يكاد يسمعه أحد، وإن اخترعوا معارك جانبية لمصالح لا يعرفها أحد سواهم فهم يعلقونها في قاطرة القضية الفلسطينية، كما فعل صدام حين غزا الكويت، وأوقع العراق في محنة كان بالوسع أن يتجنبها، ولكن عناده ورفضه الانسحاب من الكويت أعطى المبرر لأخطر تدخل عسكري دولي ساهم فيه العرب، حين لم يجدوا وسيلة لإقناع صدام بالتراجع والانسحاب. وقد فعل القذافي الأمر نفسه حين قرر أن يواجه شعبه بالقتل والتدمير، وبدأ يقصف المدن الليبية بقسوة مريعة، فاضطر العرب في جامعتهم أن يوافقوا على تدخل عسكري دولي وكانوا "كالمستجير من الرمضاء بالنار"، ولو أن صدام حسين والقذافي من بعده، امتلكا رؤية حكيمة لجنبا شعبيهما هذا الخيار الصعب، الذي سيبقى جرحاً غائراً في الوجدان العربي. ولقد أحدثت رياح التغيير التي هبّت عاصفة على الأنظمة العربية تغييرات كبرى في الواقع العربي، ولكن التكلفة جاءت باهظة جداً، وكان بالوسع استيعاب رغبة الشعوب في التغيير باستخدام الحكمة وهذا ما فعله بعض القادة العرب الذين سارعوا إلى إجراء تعديلات دستورية دون تردد أو تأخير، وبعضهم تنازل عن بعض صلاحياته، وبعضهم سارع إلى توسيع المشاركة الشعبية في الحكم، وأتاح للمعارضة أن تقود الحكومة والبرلمان، وفي بعض دول الخليج العربي حيث لا يعاني الشعب من مشكلات الشعوب العربية الأخرى، حرص القادة على توفير مزيد من الرفاهية لشعوبهم، وطوروا بالتدرج تجربتهم الديمقراطية، ووسعوا دور مجالسهم التشريعية، وضمن خصوصيات دولهم حرص بعضهم على ترسيخ العدالة في تطبيق القوانين، وهي المفتاح لأي نظام حكم متصالح مع شعبه، وحين تتحقق العدالة وتزدهر التنمية، ويتم القضاء الجاد على الفساد ومظاهره، لا يهتم المواطن بشكل الحكم، ملكيّاً أو جمهوريّاً، دستوريّاً أم عرفيّاً، فالمهم عند الإنسان هو أن يتحقق له العيش الكريم، وألا يطاله ظلم، وأن تصان حريته، وتحفظ كرامته، وأن يحصل على حقوقه في التعبير والتعليم والصحة والخدمات العامة وسوى ذلك من حقوقه، فإن توافر له ذلك مع الحرص على مصالح وسيادة وطنه، فلن يهتم كثيراً بشكل الحكم، ولنا دليل في دول أوروبية كبرى لا تزال تحافظ على ملوكها وأمرائها وتحفظ لهم شكل الحكم التاريخي، بل إن تلك الشعوب تشارك في احتفالات ملوكها وأفراحهم بنشوة وسرور، وما يحدث في بريطانيا من طقوس ملكية احتفالية يبهر العالم كله. وفي عالمنا العربي كان الاستبداد في الدول الجمهورية بل في الجماهيرية يتجاوز ما فعله الملوك المستبدون في العصور الوسطى، فالسجون ملأى بالمعتقلين، وجلهم معتقلو رأي، والفساد يعلو على القانون، والزعيم يعلو على الدستور، ولقد ضاق الناس ذرعاً بهذا الفساد الذي أذلهم، فانطلقت رياح التغيير تعصف بكل شيء، وكان طبيعيّاً أن ينهل الناس من خزان ثقافتهم الإسلامية التي كانت لعقود مضت تعاني من التهميش والازدراء الرسمي، وبات يتجنبها المسؤولون ربما خشية أن يقال إنهم متشددون، وبات الإسلام وكأنه مجرد ضيف في المناسبات الدينية وحدها، وكانت الشعوب العربية تكتم ضيقها بهذا العداء الخفي حيناً والمعلن حيناً آخر للإسلام، وبات مستفزاً للعرب أن تتم السخرية من دينهم على صعيد عالمي، فهذا يرسم النبي، صلى الله عليه وسلم، رسوماً ساخرة، وذاك يحرق المصحف الشريف، ولم تكن الشعوب العربية تملك سوى أن تعلن تعلقها بالإسلام المستباح لتحميه، وربما كان هذا من أسباب انتشار الحجاب الإسلامي في العقود الأخيرة وتحوله إلى قضية، أهم دلالاتها فضلاً عن الجانب الديني رفض اقتلاع الهوية الإسلامية للمجتمع، فقد شعر المجتمع العربي في قاعه بأنه يتعرى من قيمه، وكان قد عانى من قبل من مآسي انهيار مشروعه القومي، وباتت لغته العربية ذاتها وهي هويته، معرضة للتهميش أمام اللغات العالمية الأخرى، وفي الوقت ذاته لم يستطع أن يحقق أي تقدم في مشاريعه الوطنية أو القومية. وقد تعرض العراق للغزو وانهارت قوته، وإسرائيل تقصف جنوب لبنان وتدمر البنى التحتية، ثم تحاصر غزة والعرب ينتظرون من يفك الحصار، والطائرات الإسرائيلية تهاجم مواقع مهمة في الأرض العربية ولا يملك النظام الرسمي فيها أكثر من التأكيد على الاحتفاظ بحق الرد! وعلى رغم أنني أفهم الظروف التي تدعو إلى ذلك، ولكنها كانت تدعو الشعب أيضا إلى الشعور بالغضب المكبوت، وإلى الإحساس بالعدمية والهوان، مما جعل أردوغان يصير نجماً في فضاء العروبة ذات يوم لمجرد أنه عبر عن ضيقه من سلوك إسرائيل أمام بيريز. ولم يكن أمام شعوب العرب أي أمل في التغيير سوى أن تنتفض، وكان لابد لرياح التغيير أن تحدث انقلاباً يختلط فيه الصالح بالطالح، وأن تكون من النتائج السلبية فوضى تطيح بالأمن والاستقرار، وكان لابد لتجارب الديمقراطية من أن تتعثر، وأن تظهر أفكار شتى، بعضها خارج عن العصر، وبعضها ينتمي إلى الأهواء والمصالح، وكان أخطر ما في هذه الأفكار استعادة الخلافات التاريخية بين الطوائف والمذاهب والإثنيات، مما يهدد بسقوط الدولة وانهيار كل ما تم إنجازه على صعد وطنية خلال مئة عام من البناء. إن أهم ما ينبغي أن يحافظ عليه الجميع على اختلاف مواقفهم، هو ألا يطال التغيير وحدة الشعب، وألا يهدم الدولة، وألا يورث الأحفاد ركاماً من الأحقاد.