عندما سمعته يغني حالما استيقظ من النوم أغنية "انسَ الدنيا وريّحْ بالك"، عرفت أننا مقبلون على كارثة، وأول الكارثة غناؤه الذي يكرر اللازمة دون كلل أوملل. "انسَ الدنيا وريّحْ بالك وأوعى تفكر بلّي جرالك". ويصعب في الصباح المبكر معرفة ما إذا كان الذي يغني في رأسي هو النظام رقم 1 أم النظام رقم 2. فالنظام 1 يحدس ما يحدث فورياً بسرعة وبدون تفكير، ويميز عفوياً مشاعر الآخرين من أصواتهم أو سيمائهم، بينما يتصرف النظام 2 ببطء وتؤدة ويأخذ وقتاً في التحليل، والتفسير، والتذكر، وإصدار الأحكام. هذه هي الفكرة الأساسية في كتاب "التفكير بسرعة، وببطء" لعالم النفس دانييل كيهنمان، الذي يميز بين نفسين متصارعتين داخل كل إنسان، نفس عجلى منهمكة بالعيش، وتمشية الأمور، ونفس متأنية، تتذكر، وتسجل النقاط، وتقوم بالخيارات. وكنتُ استبشرتُ عندما شرعت بقراءة الكتاب بالعثور على ما قد يفسر تأرجحي ما بين التفاؤل والحبور بمقدم الربيع العربي، والتوجس والشك به. النفس 1 العفوية تستخدم المقارنات والاستعارات لوضع مسودة سريعة لخريطة الأحداث، والنفس 2 تستخدم الخريطة لبلورة قناعاتها وخياراتها. النفس 1 تقترح، والنفس 2 تستخلص. ويُفترض أن تكون القيادة للنفس 2، لولا أنها متأنية، وعقلانية، وكسولة وتتعب بسهولة. وبدلاً من التمعن وتحليل الأمور تتقبل الرواية السهلة للأحداث التي ترويها النفس 1. وهذا في تقدير كيهنمان مصدر تحيزات تفكير الناس، الذين تقفز بهم النفس 1 نحو استنتاجات حدسية قائمة على التوجهات، وهي طريقة سهلة، إلاّ أنها غير وافية لمعالجة مشاكل تستدعي عند وقوعها تدخل النفس 2، باعتبارها النفس المدركة والتي يفترض أنها تمثل "الأنا". ويعتبر عالمُ النفس هذا اعتقاداً خاطئاً، فالمرء يتكون من النفس 1 أيضاً، وهي تحتل دور البطولة في الكتاب، بسبب سهولة مصادقة النفس 2 الكسولة على أحكامها الحدسية، وتقاعسها عن فحص أحكام النفس 1 ومعرفة ما إذا كانت منطقية. وتكاسل النفس 2 مبرر غالباً، فالنفس 1 تؤدي عملها في معظم الأوقات بشكل جيد، وذلك لحسها المرهف بتقلبات البيئة، وحدسها بالناس، وإدراكها الفوري لإشارات الخطر، إلاّ أن ولعها بتبسيط الأمور، واعتمادها على "القشبة" وتسرعها في إصدار الأحكام يوقعها (يوقعنا) في ورطات مكلفة. ويظهر ضعف أداء النفس 1 في الأمور التي تتعلق بالحسابات والأرقام، وبسبب جهلها تقفز إلى استنتاجات خاطئة، وتقع تحت تأثير عوامل لا عقلانية، كتأثير ما يُسمى "مفعول الهالة" أي الجاذبية الشخصية، أو "مفعول التأطير" الذي وضعه كيهنمان لتفسير اختلاف الرأي، وتغير المواقف من مسألة واحدة تبعاً للإطار الذي تحاط به، كتغير صورة الأشكال الهندسية المحددة تبعاً للإطار الذي يحيطها. وهذه لعبة أساسية لأجهزة الإعلام الغربية في تأطير وقائع "الربيع العربي" بشكل نراها، أو لا نراها حسب تأطيرها. وأعتذر عن هذه المداخلة غير الواردة في كتاب "التفكير بسرعة وببطء". فالكتاب معني بظاهرة توارد الأخطاء في تفكير الناس العاديين، والتي لا تعود إلى تلاعب خارجي بعملية التفكير، بل إلى عيوب في عمل جهاز التفكير نفسه، والذي يتأثر بعوامل لا علاقة لها بصلب الموضوع. وهل لجهاز التفكير علاقة بورطة الناس ما بين أنظمة دكتاتورية جاهلة يعرفونها وثوار لا يعرفونهم، ولا يعرفون أنفسهم من هم، وما سيفعلونه حقاً، ولماذا يفعلونه؟ وكيف التعامل مع معارضين معقولين يرفعون شعارات غير عقلانية، وممثلي حركات دينية وثورية يضاهون أعمال الأنظمة التي يريدون إسقاطها، ومواقف غير معقولة لجماعات عقلانية، كالمثقفين اللبراليين الذين يزايدون على ضيق أفق وتعصب الأنظمة الدكتاتورية. وإذا كانوا هكذا في الفضاء الطلق للمعارضة فكيف سيتصرفون داخل زنزانة الحكم التي تكتم الأنفاس؟ كل هذه الأسئلة غير واردة في الكتاب المعني بشرح أن "وهم التركيز" ينتفخ بفعل سخونة الاهتمام حتى نعتبر دوره في حياتنا أعظم مما هو في الواقع، و"لا شيء مهم في الحياة كما اعتقدنا عندما فكرنا به"! وهل من أمل إذا كان حتى الناس الذين يتعاملون بالمال والاقتصاد غير عقلانيين؟ "نظرية التوقع" أو "الإطلالة" Prospect التي نال بها كيهنمان جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2002، تبين أن التصرف الاقتصادي للناس لا يتم على أساس تحقيق أقصى النفع، حسب التصورات التقليدية للاقتصاديين، بل على أساس القيمة المحتملة للخسارة والربح، وليس الدخل النهائي المتحقق. ويقيِّمُ الناس بموجب توجهاتهم لهذه الخسارة والمنفعة. وتصور النظرية بمعادلات رياضية عملية اتخاذ القرارات على مرحلتين، المراجعة والتقويم، حيث يقرر الناس أولاً المحصلات التي يعتبرونها متوائمة، ويضعون نقاطاً مرجعية ثم يعتبرون المحصلات الأقل خسارة والأكبر كأرباح. وهذا هو السلوك التقليدي للمقامر الذي يعتبر أفضل رمية نرد هي أن ترميه. يقول ذلك المثل الإنجليزي، وليس كيهنمان الذي يشغل كراسي أستاذ النفس والاقتصاد في جامعات أميركية متقدمة، بينها "برنستن". ويختتم الكتاب بالحكم على أن "الإنسان العقلاني قد يفضل أن يكون مكروهاً على أن يكون محبوباً، وأن تبدو أفضلياته متساوقة. فالعقلانية تساوق منطقي، سواء كان معقولاً أم لا". هذا الحكم القاطع الخاطئ، حسب اعتقادي يمتد كالشرخ عبر نظريات كيهنمان. فكثير من الناس، ومعظم النساء خصوصاً، يفضلن أن يكن محبوبات على أن تكون أفضلياتهن متساوقة منطقياً. هل يعني هذا أن النساء غير عقلانيات؟ نعثر على الجواب عن أسئلة محرجة كهذه في المنشأ العسكري لنظرية كيهنمان، والتي طوّرها خلال سنوات خدمته في "الجهاز السايكولوجي" لما يسمى "جيش الدفاع الإسرائيلي". وأعترف أنني لم أصدق حدس النفس 1 التي تشكك عفوياً بجوائز "نوبل"، وتكاسلت مع النفس 2 عن مراجعة خلو الكتاب من أي ذكر لفلسطين، سواء كواقعة، أو تجربة، أو كذاكرة، إلا مرة واحدة عندما ذكر كيهنمان في السيرة الذاتية التي قدمها بمناسبة منحه "نوبل" أنه ولد في "مدينة تل أبيب بفلسطين تحت الانتداب". كيف يفوّت عالم النفس الفرصة الفريدة لدراسة ميلاده ونشوئه في أكبر حادث اجتثاث وزرع نفوس بشرية في التاريخ؟ والسؤال رقم 1 إلى هيئة "نوبل": كيف تُلوى رقبة الجائزة المخصصة للاقتصاد كي تمنح لعالم نفس؟ والسؤال رقم 2: هل يجوز منح "نوبل" التي تشترط خدمة السلام بين الشعوب إلى مجند سابق في جيش احتلال؟ يقول المثل الإنجليزي: "العربي يهودي على ظهر حصان"، ولم ير العالم بعد من العرب شيئاً. فما بين النفس 1 والنفس 2 يعيش العرب ربيعهم هرولة وقفزاً وتأرجحاً وطيراناً ودوراناً على رؤوسهم. وهذا سبب هوس الغرب بالربيع العربي. و"انسَ الدنيا وريّحْ بالك"!