في سنة 1962، أي منذ خمسين عاماً قبل الآن، نشر المحلل البريطاني سيمون فينز كتابه المهم عن "الرجل الممتطي جواده". كان الهدف من ذلك الكتاب أو الدراسة الرائدة هو تحليل الظاهرة المهمة في العلاقات الدولية، والمتمثلة وقتها في الانقلابات العسكرية وعسكرة نظم سلطة الحكم، خاصة في الدول حديثة الاستقلال، أو ما كان يسمى في حينه دول العالم الثالث. وبسبب موضوعه الخاص وكذلك قوة تحليله، فقد أصبح ذلك الكتاب من الأعمال الكلاسيكية المرموقة في عالم السياسة. فقد جاء كتاب "الرجل الممتطي جواده" بعد عشر سنوات من الانقلاب العسكري في مصر والذي أوصل عبد الناصر ورفاقه إلى سدة الحكم. لكن انقلاب عبد الناصر لم يكن الانقلاب الأول في المنطقة العربية، فقبله -في سنة 1949 فقط- كانت هناك ثلاثة انقلابات عسكرية في سوريا وحدها، لكن انقلاب عبد الناصر ورفاقه من تنظيم "الضباط الأحرار"، اكتسب رؤية سياسية واجتماعية، وبالتالي تحوَّل إلى ثورة بواسطة إجراءات معروفة، مثل الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية، ومقاومة الأحلاف العسكرية، وتأميم قناة السويس... وغيرها من الإجراءات السياسية والاجتماعية التي تجاوزت في تأثيرها النطاق الوطني المصري لتصبح نموذجاً إقليمياً في المنطقة العربية، ومن ذلك ما حدث في سنة 1958 على أيدي حركة الضباط العراقيين لإنهاء الحكم الملكي، وبالطبع انقلاب القذافي في ليبيا سنة 1969. وفي الكثير من الكتابات التحليلية العربية التي تُؤرخ لتلك الفترة من تاريخ المنطقة، يتكرر التأكيد على أن انقلاب القذافي كان نهاية هذه الانقلابات، وذلك على أساس أن السلطة قد تم تحويلها إلى حكم مدني، حتى لو أصر القذافي على لقبه "الأخ العقيد" الذي ظل يحمله حتى مقتله، كما يحب أن يظهر في كثير من الأحيان ببدلة الماريشال! كان عند مؤرخي السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي بعض الحق، فلم يظهر حافظ الأسد مثلاً ببدلته العسكرية إلا في مناسبات محدودة، بينما لم يظهر مبارك بزيه العسكري الرسمي بعد انتخابه رئيساً للجمهورية في سنة 1981 مرة واحدة. لكن هل يكفي ذلك للحديث عن نوع من "تمدين" نظام الحكم، أي سيطرة المدنيين على مراكز اتخاذ القرار؟ الحقيقة أن هذا لم يحدث تماماً، لأن النخبة العسكرية استمرت حول الرئيس الذي قد يُغير من زيه الرسمي، فيستبدل بدلته العسكرية ببدلة مدنية، لكنه لا يستطيع الفكاك من ماضيه ومن الأثر القوي لتنشئته العسكرية وطريقة تفكيره، ولكن على الأقل أصبح المدنيون يحتلون الكثير من الوزارات في الحكومة، بما في ذلك منصب رئيس الوزراء أو وزارة الخارجية، إلا أن العسكر ظلوا دائماً متحكمين في دواليب القرار ولو من وراء الستار. كان من الطبيعي إذن، في حالة فوران الشارع العربي بداية مما حدث في تونس ثم في مصر، أن يكون العسكر هم الفصيل الحاضر بقوة في تغيير رأس السلطة، ثم الانتقال إلى المرحلة الانتقالية. وهكذا تؤكد الأخبار التي وصلتنا من تونس أن راشد عمار -قائد الجيش- كان هو من تولى إقناع، أو بالأحرى إجبار بن علي على التخلي عن السلطة مقابل تسهيل خروجه آمناً من البلاد. وبالمثل كان الجيش المصري برئاسة طنطاوي هو الذي قام بإجبار مبارك على التخلي عن سدة الرئاسة ثم مغادرة قصره والعيش في شرم الشيخ. والمتفق عليه أيضاً أن من سيحسم الوضع القائم حالياً في سوريا، سواء لجهة استمرار أو خروج الأسد من سدة الحكم، إنما سيكون موقف الجيش والمؤسسة الأمنية السوريين. فماذا يعني كل ذلك؟ إنه باختصار شديد يعني أن العسكر هم الآن الفيصل في الحكم، رضينا أم أبينا، ستكون نقاط الاختلاف الوحيدة هي الطريقة التي سيمارس بها هؤلاء العسكر نفوذهم، ومن المرجح أن يستمر هذا الوضع العربي لعدة سنوات قادمة. وإذا كان هذا التشخيص لخصائص الحكم العربي سليماً، فماذا سيكون رد فعلنا كمحللين؟ أولاً: مواجهة هذا الوضع بصراحة ووضوح ووضع قواعد معقولة للعلاقة الجديدة بين المدنيين والعسكريين في مركز السلطة، كما حاولت وتحاول حكومة أردوغان أن تفعل في تركيا، أي أن تخرج هذه العلاقة إلى العلن بدلاً من أن تبقى داخل الغرف المغلقة. ثانياً: أن نهتم بما يسمى الـSSR أو Security Section Reform، أو إصلاح قطاع الأمن، بما فيه قطاع العسكر، وألا يقتصر هذا الأمر على إصلاح الهياكل واللوائح والقوانين، ولكن يمتد لإصلاح العسكر، بمعنى عدم الاقتصار على تكوين مهنيتهم العسكرية ولكن أيضاً تثقيفهم من الناحية المدنية، بما فيها النواحي الاقتصادية والسياسية، بما يشتمل عليه ذلك من تشجيع ضباط الجيش والشرطة على الدراسات العليا في مراحل الماجستير والدكتوراه خارج معاهدهم العسكرية المتخصصة، بل وإعطائهم الفرصة للفوز ببعثات دراسية في داخل بلدانهم وخارجها. وهناك أمثلة معروفة لتطبيق نظام البعثات على منتسبي الجيش كما هو في الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية أيضاً. أخيراً، وباختصار شديد، أقول إنه بسبب حيوية الأدوار التي تطلع بها المؤسسة العسكرية، بما في ذلك دورها السياسي أحياناً، فإنه ينبغي الاهتمام بتكوين عناصرها حتى لا نكون، في الدول العربية، كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال فتسهل مهمته على العدو في مهاجمتها.