على رغم صعوبة التنبؤ بالمستقبل، إلا أن من السهل على المرء أيضاً أن يتنصل من ترويج أية توقعات خاطئة. ويبقى هناك مخرج على الأقل بالنسبة لمن يقتضي منهم الموقف التنبؤ بالتداعيات طويلة المدى لحادثة مثل كارثة المفاعل النووي بفوكوشيما. وهم على الأرجح لن يكونوا على قد الحياة بعد خمسين عاماً لقياس توقعاتهم وإثبات خطئها. ولكن مع ذلك نحن كخبراء مدينون للرأي العام بوضع تقديرات محتملة لخطر الإشعاعات المنبعثة من المحطة النووية التي تعرضت في 11 مارس 2011 لكارثة مزدوجة، من زلزال ومد بحري، أدت إلى تسرب الوقود النووي من المحطة. وليس غريباً أن تثير الحادثة المؤسفة مجدداً الأسئلة والمخاوف المرتبطة بازدياد خطر الإصابة بالسرطان جراء التسرب الإشعاعي إلى درجة أن الناس، بعد عام على الكارثة، ما زالوا خائفين من زيارة اليابان، ومن ارتياد مطاعم "السوشي"! هذا في حين تبذل الحكومة اليابانية كل ما تستطيع لتبدبد هذه المخاوف وتطمين الرأي العام المحلي والدولي بأنه لا شيء يثير القلق، فأيّاً من الفريقين نصدق؟ لمعرفة الحقيقة لابد أولاً من توضيح بعض الأمور، فالإشعاعات التي ترعب البعض موجودة بشكل طبيعي ويتعرض لها البشر كل يوم، ولاسيما أن 50 في المئة منها يأتي من مصادر طبيعية بما فيها الشمس والكون وكوكب الأرض، فيما 50 في المئة من الإشعاعات المتبقية تأتي من مصادر بشرية أهمها الفحوص الطبية المختلفة التي تشكل 80 في المئة من تلك الإشعاعات ذات المصدر البشري. أما مصادر الإشعاعات الأخرى ذات المصدر البشري فتتوزع بين آلات كشف الدخان وإشارات الخروج المضيئة، هذا دون أن ننسى الجسم البشري نفسه الذي يحتوي طبيعيّاً على جزيئات مشعة. وعادة لا نهتم كثيراً للأخطار الناشئة عن التعرض لإشعاعات يومية، فعلى سبيل المثال إذا ما وجه الطبيب بإجراء صورة مقطعية فإن نسبة الإشعاع التي يتعرض لها الجسم تفوق بسبع مرات معدل ما يتعرض له الجسم البشري من إشعاعات طبيعية، أو بشرية طيلة السنة، ولكن مع ذلك نادراً ما يرفض الناس إجراء صور مقطعية خوفاً من السرطان، في حين ينتابنا الرعب عندما نقرأ عن حجم الإشعاعات في مياه طوكيو الآن. ولعل من الأمور المهمة لتبديد المخاوف، في هذا المقام، المقارنة بين احتمال التعرض للسرطان بسبب إشعاعات فوكوشيما وبين الاحتمالات العادية لتطور السرطان في الجسم البشري، فقد أثبت العلم مع الأسف أننا جميعاً معرضون للإصابة بالسرطان خلال حياتنا، وهذا الخطر يصل لدى رجل يبلغ من العمر 50 سنة 42 في المئة خلال السنوات المتبقية من حياته، وهي النسبة نفسها لدى طفل يبلغ من العمر عشر سنوات، ولا ينخفض عامل الخطورة إلا بالتقدم في السن لأننا نموت لأسباب أخرى وليس لانخفاض نسبة الإصابة بالمرض. ولكن ذلك لا ينفي أيضاً احتمال إصابتنا أكثر بالسرطان في حال الإفراط في التعرض للإشعاعات، وهو ما توضحه الدراسات التي أجريت على الناجين من التفجيرات النووية في مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، بالإضافة إلى فئات من الناس تعمل في الإشعاعات الطبية، أو في مهن خاصة. ومع ذلك يبقى السؤال فيما يتعلق بتسرب فوكوشيما عن حجم الإشعاعات المتسربة التي يمكن أن تزيد من احتمال الإصابة بالسرطان أكثر من المعدل العادي؟ على رغم كل المخاوف تبقى الاحتمالات ضعيفة في الحقيقة، وقد بنينا هذه الإجابة اعتماداً على الدراسات السابقة التي شملت حادثة تشيرنوبل قبل 25 عاماً وباقي حوادث التعرض للإشعاع. فبعد انفجار مفاعل تشيرنوبل انتشر الإشعاع في العالم بأسره، وكان الخبر السيئ ظهور آلاف الحالات من سرطان الغدة الدرقية، أغلبهم من الأطفال الذين شربوا حليباً ملوثاً باليود 131 في غضون الشهر أو الشهرين اللذين أعقبا الحادثة ولم يتلقوا حبات اليود السليم لمنع الجسم من امتصاص اليود المشع. ولحسن الحظ لا يعتبر سرطان الغدة الدرقية من الأنواع المميتة ونادراً ما يقود إلى الوفاة، وأكثر من ذلك وبعد دراسات مكثفة خضع لها سكان المنطقة التي تعرضت للإشعاع لم تظهر أي بيانات تؤكد تصاعد حالات سرطان الدم، أو باقي أمراض السرطان الأخرى حتى لدى 500 ألف من عمال التنظيف الذين تلقوا أعلى درجات الإشعاع. وفيما يخص فوكوشيما فإن نوع الإشعاع يشبه ما كان عليه الأمر في تشيرنوبل، ولكنه أيضاً أقل بأربع إلى عشر مرات من الكمية التي أطلقها مفاعل تشيرنوبل، هذا بالإضافة إلى عدد من نقاط الاختلاف المهمة الأخرى، حيث ذهبت 80 في المئة من إشعاعات المفاعل الياباني ناحية البحر لتضعف حدتها بسبب الهواء والبحر، ولذا تبقى نسبة الإشعاع التي تعرض لها عمال المفاعل والسكان أقل من نظيرتها في تشيرنوبل بمن فيهم 20 ألفاً من العمال، و100 ألف من السكان الذين تم إخلاؤهم من المنطقة. ولا يعني ذلك أن أحداً لن يصاب بالسرطان بسبب الإشعاع، بل يعني فقط أن نسبة الإصابة ستكون ضئيلة للغاية إلى درجة سيصعب رصد حالات سواء في اليابان، أو خارجها يمكن ربطها مباشرة بإشعاعات فوكوشيما. ولكن ما الذي يعنيه حقيقة التعرض للإشعاعات في فوكوشيما؟ حسب التقديرات فإن رجلاً يبلغ من العمر 50 سنة قد تزيد لديه احتمالات الإصابة بالسرطان من 42 في المئة إلى 42,2 في المئة، وهو الارتفاع الذي قد يحصل في أي مكان آخر تزيد فيه نسبة الإشعاعات عن المعتاد، أو لدى شخص يدخن علبة من السجائر يوميّاً، فلماذا يشعر الناس بالخوف في ظل الخطورة المتدنية لإشعاعات فوكوشيما؟ السبب الرئيسي هو الأداء السيئ للحكومات والعلماء على حد سواء وعجزهم عن توضيح حقيقة الإشعاعات للرأي العام، فإلى حد الآن تقيس معظم التقارير حجم الإشعاعات بتلوث المواد الغذائية والمياه دون الانتباه إلى التأثير الواقعي لذلك على ارتفاع احتمال الإصابة بالسرطان التي كما أسلفنا تظل ضئيلة. روبرت بيتر جيل أستاذ بجامعة إمبيريال كوليدج بلندن ومهتم بدراسة تداعيات تيشرنوبل وفوكوشيما أوين هوفمان خبير دولي متخصص في مخاطر الإشعاع ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"