في تقديري أن أفريقيا مازالت ساحة لدراسات متجددة وغنية، حتى لو كانت بالسلب أحياناً، بل إن التقييم لفترات تاريخية، يبدو أفيد كثيراً عنه من تقييم وقائع إخبارية محدودة. كان ذلك النهج مجدياً عند تقييم سلسلة الانقلابات العسكرية في الستينيات، كما كان نافعاً ونحن نقيم سلسلة الزحف الشعبي الديمقراطي أوائل التسعينيات، ومازالت الأحداث تقدم النماذج وآخرها المغامرة السنغالية مع الرئيس "عبد الله واد"! كل ذلك يشكل مادة السوسيوجيا السياسية الأفريقية. أقول إنه عندما سادت الانقلابات العسكرية في الستينيات، كانت إشارة إلى طبيعة الجيوش الموروثة عن الاستعمار من جهة، وإشارة أقوى إلى مشكلة أو أزمات الزعامات التاريخية الكاريزمية من جهة أخرى ومدى حرصها في البناء الداخلي على عناصر الاستدامة لـ"نظام" بقدر حرصها على بناء نفوذها واستدامة مكانتها. وطال ذلك شخصيات مثل "نكروما و"موديبوكيتا"، وكان ثمة محاولة في تنزانيا... إلخ. وفي مقابل العمليات الانقلابية تنبه بعض الزعماء إلى مواجهة ذلك بقدر من الأنماط الديمقراطية الصورية، لتصاحب ما اضطروا إليه من استسلام أمام شروط الاقتصاديات العالمية أوائل السبعينيات للأخذ بمطلب الحريات الليبرالية، إزاء مشروطية "اللبرلة" الاقتصادية من أجل الحصول على مساعدات... الخ. في هذه الأجواء شاهدنا تجارب "تعددية" حاملة كل عناصر الأزمة في مصر وتونس، وكان أبرزها جنوب الصحراء في السنغال، وظهر السادات وبورقيبة وسنجور كنجوم لهذه المرحلة. وقد برزت مآزق هذه النظم نفسها أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات حيث لم تستوعب "الحريات" في السياسة "أزمة الجماهير" الاقتصادية الاجتماعية، فواجهت النظم حركة زحف جماهيرى على العواصم باسم مؤتمرات السيادة "الوطنية الشعبية"، لتدفع بتغييرات كبيرة في غانا ومالي وبنين والنيجر ومدغشقر... الخ. أو تدفع ما يشبه الانقلاب في تونس (بن على) أو التجميد في عصر مبارك! لكن تجارب الديمقراطيات الشعبية عانت فشلاً ملحوظاً بدورها نتيجة غياب برامج التحول الاقتصادي الاجتماعي الحقيقية... وكان ملفتاً منذ أواخر التسعينيات، أن التطورات الأفريقية يسلم بعضها للآخر بشكل ملحوظ، ومع بعض التقدم، فاستقرت من خلال التطورات الديمقراطية المختلفة، أفكار المجتمع المدني، وطرح تعددية فعلية ممثلة للقوى الحديثة والقديمة على السواء، خلافاً لفكرة المنابر المحدودة في السبعينيات مثلاً، أو التمثيل "الشعبوي" وسيولته في فترة أخرى. وبدأنا نلحظ تطوراً في التنظيم السياسي والحركة الشعبية المنظمة، لا تزال غانا تضرب المثل على تقدمها مثل مالي وكينيا... وتعتبر السنغال في هذا الصدد مثلًا طيباً جديراً بالتوقف عنده. وقد يبدو هذا مدهشاً من جانبي ونحن نقدم مثالًا لرئاسة تاريخية تحاول مؤخراً أن تواصل الزعامة بشكل غير مناسب، ممثلة في سلوك الرئيس "عبد الله واد"، الرئيس السنغالي ذي الثمانينيات من عمره، والذي يبدو فارضاً نفسه على العملية الديمقراطية لدورة ثالثة دون موافقة الأغلبية من أبناء شعبه، فما الذي يدخل ضمن العملية الديمقراطية هنا؟ نحن هنا أمام ثلث قرن من التطورات الديمقراطية المستمرة منذ تنازل الرئيس الشاعر سنجور عام 1981 عن الرئاسة للرئيس عبدو ضيوف، وليتطور المشهد السياسي من تنافس عدة أحزاب سياسية تقليدية إلى ما يزيد عن السبعين حزباً الآن، بل إن السنغال من الدول القليلة، التي تعرف نمط الأحزاب "الجهودية" مثل حركة كازامانس وتجمع "كولدا" أو "سينى سالوم".. الخ. وتعرف السنغال تجمعات يسارية قوية (رابطة العمال)، وحركة اشتراكية ديمقراطية" وحزب ضيوف السابق بالإضافة للأحزاب الليبرالية التقليدية. والملفت في الواقع السنغالي، هو القدرة على التجمع والانفراط بين هذه الحركات السياسية لهدف انتخابي أو برلماني، بما أغنى الحياة السياسية في أكثر من مناسبة وجعل السنغال مثالاً لعملية ديمقراطية ثرية بالفعل، وعلى مدى طويل. لننظر لعملية "صعود وهبوط" الرئيس "عبد الله واد"، خاصة إذا صدق التوقع بخسارته المؤكدة لانتخابات الرئاسة الجارية. إنه الرجل الذي يدخل المنافسة السياسية منذ 1978، ولا ينجح في الوصول لمقعد الرئاسة إلا عام 2000! وطوال هذه المدة، يقاتل وحده مرة كحزب "ديمقراطي ليبرالي" ويتحالف مرات مع عدد من الأحزاب الصغيرة، اشتراكية ويسارية، ثم يتركها في دورة ثالثة لينافس وحده 2012، وهو يواجه المنافسة من صفوف أعدائه كما أنه استثار أنصاره أيضاً، فيدخل المنافسة مع شخصيات من داخل حزبه هو نفسه مثلما حدث في الانتخابات الأخيرة أمام "سيك" ومصطفي نياس وعشرة آخرين والأقوى الآن أمامه ماكي سال". في خلال ذلك تبقى الأغراض الشخصية داخل حركة سياسية، لا يمكن وصفها إلا بالعملية الديمقراطية، بالمعايير التقليدية بالطبع. وسيظل الواقع السياسي الأفريقي يذكر كيف عبأ "عبد الله واد" مختلف قوى المعارضة خلفه في انتخابات 2001 في معركة شهيرة هزم فيها الرئيس الأشهر "عبدو ضيوف"، وهو في قمة بريقه السياسي. وكان "عبد الله واد"، قادماً من منفاه الاختياري في باريس ويجمع تأييد "الديمقراطيين" والاشتراكيين الفرنسيين على السواء. وبهذه الدفعة القوية التي توج فيها عبد الله واد "نضاله" من أجل الرئاسة لمدة ربع قرن، حقق "واد" فعلًا الكثير في مجال البنية التحتية ممثلًا في تطوير عاصمة جميلة مثل داكار، وطرقاً إلى أنحاء مختلفة من السنغال، وعدداً من المؤسسات الاقتصادية ذات الصلة طبعاً بمؤسسات العولمة. ونفعه في ذلك الكثير من المال العربي الخليجى ثم الليبي! بل وقد راح "عبد الله واد"، يدخل السنغال إلى جانب النشاط الإقليمي في المعارك الداخلية ببعض الدول لم يكن مألوفا أن نعرف دوراً للسنغال فيها مثل رئاسة ساحل العاج وتوجو وغينيا وآخرها القذافي. و"الديمقراطية السنغالية"- أن جاز التعبير- تقدم نموذجاً بحق في مجال الدراسات الأفريقية، ولذا نقدم معارك "واد" كنموذج بصرف النظر عن احتمال نجاحه في انتخابات الرئاسة (جولة) الإعادة للرئاسة من عدمه. فهي نموذج لصعود وهبوط التجارب الكبيرة بدون شك، نموذج لمعارك التأسيس الحزبي، والتحالفات، والمعارك التكتيكية والاستراتيجية في العمل السياسي، بل وهي مثال أيضاً لعناصر إفساد التجارب! ومن عناصر "الفساد" مثلًا في التجربة السنغالية بعد ما ذكرنا كل محاسنها أنها مازالت تعكس ملامح الواقع الأفريقي ممثلًا في تمسك "الكبار" بمواقفهم ضد طموحات الشباب، دون إدراك عقلاني لمعنى التداول والتغيير. فالسيد "عبد الله واد" لم يتحمل جمال المسيرة بموقف عشرات التنظيمات خلفه أواخر التسعينيات ليأتوا به رئيساً عام 2000. فراح عمره يتحكم فيه مثل رؤساء القبائل لا الحكماء! راح يسعى لتقديس أو تخليد شخصية، بإقامة التماثيل، أو تقديم ابنه لـ"عمودية" داكار تمهيداً لـ"توريثه" (وفشلت المحاولتان!) ثم ليتحدى نصيحة نفس مجموعة العشرات من التنظيمات التي جاءت به لكي لا يتمسك بترشح نفسه للمرة الثالثة، لكنه فعلها في عملية ظاهرة التزييف للقواعد والقوانين التي تنص على كفاية فترتين للرئاسة. ولكنه صمم أن يعود بعد سن الرابعة والثمانين، ليهزم طموحات شعبه في أن يقدم مثلاً على تقدم أفريقي ديمقراطي. بالمناسبة فإن حركة "كفاية"، التي أودت بغيره في مصر، قامت مثيلتها في السنغال في الأشهر الأخيرة ضد عودة ترشيح "واد" مجدداً للرئاسة. إن ذلك يشير إلى أن كسر "النموذج السنغالي" سيكلف سمعته الكثير... رئيساً جديداً أو مبعداً من الرئاسة. ونقدمه هنا كنموذج دراسي وليس تحليلًا إخبارياً عن السنغال.