في السادس من الشهر الجاري أعلن زعماء قبائل وسياسيون ليبيون في بنغازي تأسيس "إقليم فيدرالي اتحادي" بشرق ليبيا، واختاروا الشيخ أحمد السنوسي ابن عم آخر ملوك ليبيا رئيساً للمجلس الأعلى للإقليم المذكور. وقد جاء القرار خلال مؤتمر عقد بمشاركة قرابة ثلاثة آلاف من أهل برقة، وقرر المؤتمر أن تكون مهمة المجلس الأعلى إدارة شؤون الإقليم والدفاع عن حقوق سكانه في ظل مؤسسات السلطة الانتقالية المؤقتة، واعتبارها رمزاً لوحدة البلاد وممثلها الشرعي في المحافل الدولية، كما أعلنوا في بيانهم الختامي اعتماد دستور الاستقلال الصادر عام 1951 كمنطلق مع إضافة التعديلات التي تقتضيها الظروف الراهنة، وجددوا رفضهم الإعلان الدستوري وتوزيع مقاعد المؤتمر الوطني وكافة القوانين والقرارات التي تتعارض مع صفة السلطة القائمة كسلطة انتقالية، وأقروا دعمهم الكامل لبناء الجيش الوطني والمؤسسات الأمنية. كان لابد لتطور على هذه الدرجة من الخطورة أن يثير ردود أفعال واسعة النطاق داخل ليبيا. وعلى الصعيد الرسمي أعلن مصطفى عبدالجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي أن ما حدث يعد أمراً خطيراً يهدد وحدة ليبيا، وأكد العمل للإبقاء على ليبيا موحدة حتى ولو بالقوة. وحسناً فعل الناطق باسم المجلس عندما أوضح أن معنى استخدام القوة هو "قوة القانون وقوة الثورة"، وهو تفسير مفتعل بطبيعة الحال، ولكن فضله أنه أوقف صب الزيت على النار المشتعلة. وحذر عبدالجليل أهالي برقة من المتسللين والذين انضموا للثورة في مرحلة متأخرة، وبينهم مسؤولون سابقون في نظام القذافي، كما اتهم دولاً عربية لم يسمها بإذكاء الفتنة في شرق البلاد، وهو ما كان مردوداً عليه في المؤتمر الذي أعلن أن أتباع النظام المنهار وأعوانه لن يكون لهم أي دور في "برقة الاتحادية". وأضاف الشيخ السنوسي لاحقاً أن عبدالجليل نفسه كان وزير عدل في حكومة بلا عدل إبان حكم القذافي، كما نفي أي دور لدول عربية فيما حدث، وقال صراحة "لسنا انفصاليين، ولو كان انفصالاً لكنا انفصلنا صراحة، لكننا وحدويون بطبعنا". ومن ناحية أخرى انتـُقد التطور السابق بنفي شرعيته، فلا يمكن لألفين من أهالي برقة أن يحددوا مصيرها بالنيابة عن سكانها البالغ عددهم مليوناً ونصف مليون نسمة دون أي تفويض منهم، وأشير إلى أن إعلان برقة إقليماً اتحاديّاً قد يؤدي إلى تفكيك البلاد بتحريك مزيد من المناطق للمطالبة بالمثل خاصة تلك الغنية بالثروة النفطية، وهو العنصر المتوافر في حالة "برقة" التي تحتوي ثلثي احتياطي النفط الليبي فيما يسكنها ربع سكان ليبيا فقط، مما سيؤدي إلى خلل كبير في توزيع الموارد على السكان. ومن ناحية أخرى رفضت جهات سياسية وحقوقية وأحزاب مختلفة الدعوة إلى إعلان "برقة" إقليماً اتحاديّاً، وكذلك رفضها بيان القوى الوطنية الموقع من أربعين تجمعاً سياسيّاً وحقوقيّاً ومؤسسة. أما الرفض الأهم فجاء من القوى الشعبية الليبية ذاتها التي خرجت في مظاهرات في عدة مدن ليبية منها طبرق من مدن الإقليم نفسه ترفض الدعوة الفيدرالية باعتبارها دعوة مبطنة لتقسيم ليبيا، ولعل هذا ما يفسر تصريح مدير تحرير صحيفة "قورينا" الجديدة بأن ما حدث لن يكون له صدى في الشارع، كما علق رئيس اللجنة العليا المستقلة لانتخابات المجلس المحلي في مصراتة بأن ما حدث غير قابل للتكرار، وأن سكان الإقليم الشرقي أنفسهم لن يقبلوه. وثمة ملاحظات مهمة على ما جرى لعل أهمها الثلاث التالية: الملاحظة الأولى أن هذه الدعوة تجيء في مناخ انقسام يهدد بتفكيك بعض الدول العربية. كانت الفاتحة بدولة الصومال التي فقدت وحدتها منذ قرابة ربع القرن، واشتعلت بصراع لا ينتهي بين أمراء الحرب إما لمكاسب شخصية أو تنفيذاً لأجندات خارجية، وقد تعودنا للأسف على وضع الصومال لنفيق على ما حدث بعد الغزو الأميركي للعراق من تهديد لوحدته، وشرع الحراك الجنوبي في الجمهورية اليمنية في التحول تدريجياً من صفته كحركة مطلبية إلى حركة انفصالية تهدف إلى إعادة الأوضاع في اليمن إلى سابق عهدها قبل الوحدة، وتعرض لبنان غير مرة -وبصفة خاصة عقب العدوان الإسرائيلي في 2006- إلى ما يهدد تماسكه، إلى أن وصلنا إلى الانقسام العبثي في 2007 بين "حماس" التي انفردت بحكم قطاع غزة و"فتح" التي تتحكم بالضفة الغربية، وصدمنا أخيراً في العام الماضي بانفصال جنوب السودان عن شماله رسميّاً. لا تبدو الدعوة الأخيرة في "برقة" إذن غريبة بالنسبة للمناخ العام في النظام العربي، وهو ما يجعل المرء ينظر بعين الشك إلى ما جرى على رغم تأكيدات زعماء الحركة الاتحادية في "برقة" بأنهم وحدويون لا يقبلون الانفصال. وتشير الملاحظة الثانية إلى "محنة الفيدرالية" في الوطن العربي، فهي في الأساس شكل وحدوي للدولة، ولنا في الولايات المتحدة التي تأخذ بهذا الشكل خبرة إيجابية شديدة الوضوح، وقد اتجه الفكر القومي العربي في عملية النقد الذاتي التي قام بها رواده إلى أن الفيدرالية وليس الدولة الموحدة هي الصيغة المثلى للوحدة العربية، ولكن الفيدرالية طبقت على نحو خاطئ لا علاقة له بها في حالة العراق بعد الغزو الأميركي، فأصبح الأكراد دولة داخل الدولة، ومن يومها أصبح الفهم العربي العام للفيدرالية متأثراً بالتجربة العراقية التي تشير إلى دور تفكيكي وليس وحدويّاً للفيدرالية، ومن هنا الشك في مستقبل الدعوة الفيدرالية في ليبيا على رغم كل التصريحات المطمئنة التي نُسبت لزعمائها. ويضاف إلى ذلك أن ثمة فارقاً نوعيّاً بين أن تتحول الدولة من الحالة الفيدرالية إلى الحالة الموحدة، وبين العكس أي أن تتحول من كونها دولة موحدة إلى دولة فيدرالية، فشبهة التفكيك في الحالة الثانية قائمة مهما أكد زعماء الدعوة الفيدرالية غير ذلك، فقد كانت ليبيا بعد استقلالها في 1951 وحتى 1963 دولة فيدرالية تتكون من ثلاثة أقاليم هي برقة وفزان وطرابلس، ثم عاشت نصف قرن تقريباً في ظل دولة موحدة، ولذا فإن المناداة بالفيدرالية في هذه الحالة نذير خطر وخاصة أنها تشير إلى الإخفاق في بناء دولة وطنية حديثة طيلة نصف القرن المنصرم. والملاحظة الثالثة والأخيرة تتعلق بكيفية المواجهة، وقد زلت لسان رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي بالحديث عن استخدام القوة لمواجهة الموقف، وقد سبقت الإشارة إلى التراجع عن هذه التصريحات بتحريفها عن معناها الواضح، وهو أمر إيجابي يشير إلى اقتناع النخبة الحاكمة في ليبيا بأن استخدام القوة يزيد الأمور سوءاً، وخاصة أن الدولة الليبية تمر الآن بواحدة من أضعف مراحلها، ولذلك فإن الحوار هو السبيل الوحيد المضمون لإدارة الأزمة الراهنة، وسيقوي من شوكة الدولة الليبية فيه ذلك الرفض واسع النطاق من قبل الجماهير والنخب في ليبيا للدعوة للفيدرالية. كما أن المجلس الوطني الانتقالي مسؤول عن إزالة أسباب سخط الذين يقفون في معسكر الفيدرالية في برقة وعلى رأسها شعورهم القديم والمستمر بالتهميش اقتصاديّاً وسياسيّاً، وهو شعور يبدو أنه امتد لما بعد الثورة نتيجة قوانين وقرارات غير مدروسة للمجلس الانتقالي، وبهذا نساهم في تبديد النذر المقلقة التي تشير إلى مستقبل مخيف قد يشهد مزيداً من تفكيك الدولة الوطنية العربية.