لم يحظ رئيس عربي باهتمام عالمي كما حظيت شخصية الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. أقلام كثيرة عربية وغربية هاجمت سياسته. وهناك أيضاً أقلام كثيرة وقفت إلى صفّه، واعتبرته بحق مناضلاً قوميّاً من طراز فريد وقامت بتبرئته من أخطاء الماضي. وهناك من وقفوا على الحياد بحجة أن الرجل كان ضحية مؤامرات دنيئة حيكت من ورائه للقضاء عليه. وسواء كنت من الذين وقفوا معه أو ضدّه، إلا أن هذا لاينفِي صفة النزاهة عن هذا الرجل، فقد عاش ومات نظيف اليد بشهادة من عاصروا عهده، ولم يقم يوماً باستغلال نفوذه للحصول على امتيازات لأسرته. وكانت الطبقة الوسطى تعدُّ حينها شريحة الأغلبية بين طبقات المجتمع المصري. وأجمل الأغاني الوطنية صيغت في عهده. وكان للمرأة المصرية دور بارز في الحياة البرلمانية. الكاتب "مشعل السديري" قرر فجأة كتابة سلسلة مقالات عن عهد عبد الناصر، وتسليط الضوء على هزيمة 1967م تلك الحقبة الأليمة التي كانت وبالًا على الأمة العربية بأكملها، وقد قرأتُ مقتطفات مما سطّره السديري ولم أعثر على شيء استثنائيّ! لا أعرف حقيقة ما هدف إليه السديري من هذه سلسلة التي أعلن أنها ستخرج في شكل كتاب قريباً! المعلومات التي تمّ نشرها حتى الآن أغلبها مكرر وموجود في كتب سياسيّة كثيرة لأقلام مصرية بارزة عاصرت حكم عبدالناصر، وعلى الأخص الكاتب المصري محمد حسنين هيكل الذي كان صديقاً مقرّباً لجمال، ولم يترك شاردة ولا واردة إلا وسجلها في مؤلفاته منذ قيام ثورة 1952م وحتّى انتهاء حكم مبارك. قد يُغضب كلامي البعض، ولكنني أرى من غير المنطق أن يقوم كاتب مهما كان موقعه من الإعراب! أن يتحدّث عن زعيم في قامة عبد الناصر ويُهاجم قراراته وينتقد عهده، وهو لم يُعاصره عن قرب، ولم يعش وسط الأجواء المصرية ويتفاعل مباشرة مع أحداثها، ولم يذق طعم فجيعة الفراق، حيث كان هناك شهيد داخل كل بيت مصري! لو حدث العكس، وقرأتُ عن كاتب عربي قام بكتابة انطباعاته عن تاريخ السعودية، وتطرّق للنظام دون أن يكون قد اقترب من قياداته البارزة، أو عاش داخل السعودية، وشاهد بالصوت والصورة عمّا جرى على أرضها من أحداث، لأبديت دهشتي وشكّكتُ في صدقيته! يُذكرني الكاتب مشعل السديري في كتابته لهذه السلسلة من المقالات بمسرحية الفنان عادل إمام الشهيرة "شاهد ماشفش حاجة!" حيث كان المحقق يسعى إلى انتزاع اعتراف من الشاهد يؤكد أوصاف قاتل جارته، ليكتشف المحقق في النهاية بأن الشاهد لم ير أصلاً القاتل! لكل عصر رجاله كما يقولون، وأنا هنا لستُ في موقع الدفاع عن عبد الناصر أو تبرير أخطائه التاريخيّة التي ندفع ثمنها كشعوب عربية حتى اليوم، ولكن أؤمن أيضاً بأن عبد الناصر كان يحمل كل صفات الزعامة الحقيقية، مع إيماني المطلق بأن الزعيم الأوحد لم يعد يتواكب مع روح هذه المرحلة التي تحتاج إلى إرساء دعائم دولة المؤسسات. نُدرك بأن الأموات لا يتكلمون، ولو تكلموا لفضحوا بالأدلة والبراهين الكثير من الأقاويل التي تلوكها الألسن باسمهم! لذا كان من الأجدى على "السديري" أن يُسطّر لنا جوانب من سيرته الذاتيّة التي بالتأكيد حافلة بتجارب ثرية تستفيد منها الأجيال الجديدة في مشوار حياتها بدلًا من نبش القبور والتحدّث عن زعماء لم يُصافحوهم يوماً، ولم يأكلوا على مائدتهم، ولم يتجرعوا طعم مرارة الهزيمة في أجواء قاهرة المعز.