فجأة ودون مقدمات، وافقت كوريا الشمالية على تعليق تجاربها النووية والصاروخية وأنشطتها ذات العلاقة بتخصيب اليورانيوم التي كشفت عنها للمرة الأولى في 2010، والسماح للمفتشين الدوليين بزيارة مرافقها النووية، معلنة أن ذلك يأتي في إطار اتفاق مع الولايات المتحدة، تقوم الأخيرة بموجبه بتقديم 240 ألف طن من المساعدات الغذائية (مخصصة معظمها للأطفال والنساء الحوامل وكبار السن) مع فتح الباب أمام إرسال مساعدات أخرى. أثار الحدث جدلاً واسعاً في العالم، ولا سيما حول توقيته ودواعيه. لكن الرأي الغالب تمثل في أن القرار الكوري الشمالي يجب ألا يوحي بأن الصبي الغض قليل التجربة (كيم جونج أون) الذي خلف والده الراحل (كيم يونج إيل) في حكم هذه الدولة الستالينية صاحب عقل راجح لا يسعى إلى المشاغبة، أو صاحب سياسة رشيدة يريد بها إخراج بلده من ظروفها الكئيبة، بقدر ما هو نتيجة لبلوغ حالة الاختناق الاقتصادي الشديد التي تعيشها كوريا الشمالية منذ سنوات طويلة إلى أقصى مدى. ولعل من المفيد هنا أن نشير إلى أربع حقائق فقط كدليل على صحة كلامنا هذا: الحقيقة الأولى: إن بيونج يانج بمجرد تولي زعيمها الجديد مقاليد السلطة تبنت لهجة متشددة حيال واشنطن وسيؤول، بل أعلنت حينها أن مناورات الدولتين العسكرية المشتركة المقررة بتاريخ 27 فبراير المنصرم هي استعداد للحرب، وأنها تحتفظ لنفسها بحق الرد، وهذا يعني أن سياسة بيونج يانج القائمة على الشغب والعنتريات والمماحكة لم تتبدل مع مجيء كيم الصغير(على الاقل في الفترة التالية مباشرة لتنصيبه). الحقيقة الثانية: إن العديد من المصادر الموثوقة أشارت في أواخر العام المنصرم إلى أنباء عن قرب التوصل في بكين إلى اتفاق ما بين متفاوضين من واشنطن وبيونج يانج حول وضع حد للتجارب النووية للأخيرة (أجرت التجربة الأولـى في 2006 ، والثانية في 2009 ) مقابل رفع العقوبات وتقديم المساعدات، إلا أن موت "كيم جونج إيل" المفاجىء أعاق إتمام الاتفاقية وأجلها. وهذا يدل على أن الخطوة الكورية الشمالية الأخيرة لم يكن مصدرها كيم الصغير، ولا علاقة لها بحكمة أو رؤية صائبة مزعومتين. الحقيقة الثالثة: إن اشتراط بيونج يانج على واشنطن أن تكون المساعدات الغذائية الضخمة هي ثمن لموافقتها على وقف أنشطتها النووية والصاروخية والتخصيبية - ولا سيما تلك التي تجريها في "بيونجبيون" - لهو دليل على أن ما أملى على قادة بيونج يانج اتخاذ قرارهم المفاجىء هو استمرار تفشي المجاعة التي اجتاحت بلادهم في تسعينيات القرن الماضي، وبلوغها مستويات قاتلة. الحقيقة الرابعة: وهي تتمة للحقيقة الثالثة ومفادها أن البلاد تعاني نقصاً شديداً في الكهرباء، وأن هذا النقص يــُفترض أنه أضاف إلى فقر ومجاعة المواطنين معاناة جديدة تتمثل في الظلام الدامس وانعدام وسائل التدفئة، وما يتبعانهما من تضرر الأنشطة الاقتصادية اليومية. ولولا هذه الحقيقة لما حرص الكوريون الشماليون على أن يعلنوا أن اتفاقهم مع الأميركيين يتضمن تزويد واشنطن لهم مستقبلًا (أي لدى استئناف المحادثات السداسية الخاصة ببرنامج بيونج يانج النووي) بمفاعلات تعمل بالماء الخفيف لتوليد الكهرباء. وعلى الرغم من ترحيب سيؤول وطوكيو وموسكو وبكين ووكالة الطاقة الذرية الدولية بالاتفاق الأميركي – الكوري الشمالي، فإن المخاوف لا تزال قائمة من حدوث ما قد يبدد الأحلام في احتفاظ الاتفاقية بزخمها وصولاً إلى إبرام معاهدة سلام تنهي رسمياً الحرب الكورية (1950 – 1953 )، أي على المبدأ الذي انطلقت منه المحادثات السداسية للمرة الأولى في سبتمبر 2005. والمخاوف مردها، بطبيعة الحال، ما عـُرف عن حكام بيونج يانج وساستهم بالتجربة من مراوغة وتحايل وابتزاز وسلوك أرعن. ولعل هذا يفسر قول وزيرة الخارجية الأميركية "هيلاري كلينتون"إن الاتفاقية "تشكل خطوة أولى متواضعة على الطريق الصحيح"، مضيفة "إن الولايات المتحدة ستراقب الأمور عن كثب، وستحكم على قادة كوريا الشمالية من خلال أفعالهم". والاتفاقية بالفعل ليست سوى خطوة أولى، لأنه كي يرفع مجلس الأمن الدولي العقوبات التي فرضها على بيونج يانج، فإن على الأخيرة أن تعود إلى المفاوضات السداسية، وأن تثبت جديتها في التفاوض حول إعلان شبه الجزيرة الكورية منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل. غير أن ما لم تقله الوزيرة الأميركية، هو أنها حققت بهذه الاتفاقية نصراً دبلوماسياً، يوازي نصر بلادها العسكري في قتل بن لادن، وأن النصرين يصبان - أو هكذا يـُراد لهما – في مصلحة حملة أوباما للفوز بفترة رئاسية جديدة. ومن المعروف أن إدارة أوباما ألزمت نفسها بالتعاطي المريح مع الملف النووي الكوري الشمالي، بمعنى الصبر، وضبط النفس، والامتناع عن استخدام القوة على النحو الذي اعتاد عليه سلفه بوش الابن. بعض المصادر من تلك الداعمة لتل أبيب في الإدارة الأميركية، حذرت إدارة أوباما من أن تغتر بما حققته مع بيونج يانج من نجاح بواسطة الصبر والضغوط والعقوبات الاقتصادية، فتراهن على نجاح الأسلوب ذاته في تعاطيها مع الملف النووي الإيراني، قائلة إن "أوضاع البلدين مختلفة وكذا طريقة تفكير ساستهما، والأسس التي ينطلقون منها لمد نفوذهم". مصادر أميركية أخرى، سياسية وأكاديمية، طالبت إدارة أوباما بأن تكون حذرة، بمعنى ألا تنخدع بوعود الكوريين الشماليين بشأن أسلحتهم النووية والصاروخية، قائلة إنه "من المستحيل عليهم أن يتخلصوا من ترسانتهم ومنشآتهم تحت أي بند أو اتفاقية، وأنهم قد يلجأون إلى ألاعيب للاحتفاظ بها لأنها سلاحهم الرادع ضد أي محاولة داخلية أو خارجية لإسقاط النظام الديكتاتوري" المترهل الذي أسسه كيم إيل سونج الذي ستحتفل بيونج يانج في العام القادم بمرور مائة سنة على ميلاده. هذه المناسبة التي يقال إن بيونج يانج تستعد لها من الآن، وتحاول جاهدة أن تبدو خلالها في نظر شعبها صاحبة إنجازات. وفي هذا السياق، قيل إن بيونج يانج تتحرك في اتجاه موسكو لمد خط أنابيب للغاز إلى كوريا الشمالية ومنها إلى الجنوب وإلى اليابان، وفي اتجاه بكين للاستفادة من قطاع المناجم والمرافىء في كوريا الشمالية، وفي اتجاه سيؤول أيضا لتنشيط المنطقة الاقتصادية الخاصة بين البلدين (تديرها 123 شركة كورية جنوبية ويعمل بها 50 ألف كوري شمالي).