حاول بعض المصلحين منذ قرنين من الزمن التقريب بين المذاهب، دفاعاً عن وحدة الأمة في مواجهة الاستعمار في الخارج والاستبداد في الداخل. فقد كانت الفـرقة المذهبية أحد أسباب انهيارها ابتداء من سقوط الأندلس ثم الخلافة العثمانية ثم تفتيت الأمة واستيلاء كل دولة استعمارية، مثل فرنسا وإنجلترا، على أحد أجزائها. ولم تفلح الخيارات البديلة أن تعيد للأمة وحدتها مثل القومية العربية ممثلة في الأحزاب القومية أو في جامعة الدول العربية، أو في المنظمات والمؤسسات العربية أو حتى في النضال العربي المشترك من أجل فلسطين. ولم تستطع التنظيمات الإسلامية أيضاً استعادة وحدة الأمة وبقيت على مستوى الدول ومصالحها، وليست على مستوى الشعوب ونضالها. ونشأت مؤسسة التقريب لهذا الغرض بين الشيخ القمي والشيخ شلتوت للتقريب بين الشيعة والسُّنة. وما زالت قائمة بنشراتها وإن كان الاهتمام بها قد قل، مع أن مخاطر التجزئة الطائفية والمذهبية والعرقية تزداد يوماً بعد يوم في العراق بين سُنة وشيعة ،أكراد وتركمان، وفي اليمن بين زيدية وشوافع، وفي مصر بين مسلمين وأقباط، وفي المغرب العربي بين عرب وأمازيغ. وقد بدأ التقسيم بالفعل في السودان بين شمال وجنوب، ومر لبنان بعدة حروب أهلية بين طوائفه. فينتهي بديل القومية العربية كما انتهت الخلافة الإسلامية. وتتفتت المنطقة حتى تصبح إسرائيل هي أقوى دولة طائفية عرقية في المنطقة وفي مركزها. تقوم بدور مصر، ليس في توحيد العرب بل في تفتيتهم. ويبدو غريباً تصريح أحد المرشحين للرئاسة في مصر بأنه يقدم نفسه كمسلم سني سلفي حنفي. وهو ما يسير في اتجاه مخالف لما بدأته حركات الإصلاح. ولا يمد اليد إلى غير المسلمين وغير السنيين وغير السلفيين وغير الأحناف. ويصب في اتجاه بعض تيارات الإسلام المحافظ الذي تعاني منه الأمة لتشدده في المظاهر دون مراعاة لظروف العصر. وإن كان الجميع يشعر بالخوف من سيادة هذا التيار على الإسلام المستنير وباقي التيارات السياسية الأخرى التي تستند إلى مرجعيات أخرى كالحرية والعدالة والقومية. فإذا قدم المرشح للرئاسة نفسه على أنه مسلم فماذا عن غير المسلمين خاصة الأقباط المتخوفين من سيادة الأغلبية على الأقلية، وهضم حقوق الأقليات على ما تنادي به الاتجاهات المحافظة القبطية ويروجه الإعلام الغربي؟ والحقيقة أن جوهر الإسلام وجوهر المسيحية واحد وإن ركز الإسلام على العدل، والمسيحية على المحبة. وماذا عن اليهود المصريين وإن قل عددهم؟ وهم مصريون ساهموا في الثقافة المصرية والغناء والمسرح المصري. ويقدم المرشح للرئاسة نفسه على أنه سني، وماذا عن الشيعة المصريين وإن قلوا؟ والسنة أنفسهم بينهم تيارات ومذاهب وفرق. وهو خلاف تاريخي، استعملت فيه التسميات من أجل تقوية المواقف. وهو في بعض الأحيان صراع تاريخي سياسي خالص، صراع على السلطة تحول فيما بعد إلى خلاف في العقائد من أجل تقوية موقف كل فريق. وبعد هذا يقدم المرشح نفسه على أنه سلفي، أليس كل المسلمين سلفيين؟ السلفية تيار واحد يُنسب إلى أحمد بن حنبل. نشأ كرد فعل على التيار العقلاني الذي كان يمثله المعتزلة الأوائل الذين كانوا هم أهل السنة حتى خروج الأشعري عنهم في القرن الثالث الهجري، عوداً إلى النقل، والتزاماً بحرفية النص دون تأويل. صحيح أن جانباً كبيراً من الحركة الإصلاحية سلفي منذ ابن تيمية وابن القيم وحتى رشيد رضا، ولكن محمد عبده كان عقلانيّاً ماتريديّاً يجمع بين العقل والنقل مع أولوية العقل أحياناً. ونظراً لسيادة النقل هذه الأيام والتمسك بظاهر النصوص فربما كان من الأنسب إحياء روح التيار الاعتزالي وتشجيع التيار العقلاني كي يحدث توازناً بين العقل والنقل وكما أراد ابن تيمية في كثير من أعماله مثل "موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول"، و"درء تعارض العقل والنقل". وفي الإسلام المعاصر هناك سلفيون وإصلاحيون مجددون. هناك محافظون وهناك تقدميون. وحزب "النهضة" في تونس تجديدي، وحزب "العدالة والتنمية" في تركيا من الإسلاميين العلمانيين حيث لا تعارض بين الإسلام والعلمانية من حيث مقاصد الشريعة ودفاع كليهما عن الحياة والعقل والدين أي العلم والعرض، أي الكرامة والمال، أي الثروة الوطنية. ويقدم المرشح نفسه باعتباره حنفيّاً، وماذا عن باقي المذاهب؟ ماذا عن الشافعية وهي منتشرة في مصر، وقد عاش الشافعي وتوفي في مصر؟ وماذا عن المالكية وهي المذهب السائد في المغرب العربي؟ وماذا عن الحنبلية؟ فمصر بها كل المذاهب. بل إن المصريين بطبيعتهم بسطاء لا يعرفون المذهبية. ولذلك تعايشت ببلادهم كل المذاهب. وكل مذهب له فضله وقيمته وأصله. فإذا كانت الحنفية تعتمد على العقل والاستنباط وهو ما يعارض السلفية أحياناً فإن المالكية تعتمد على المصالح المرسلة "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن". والشافعية تجمع بين الاثنين، بين حنفية العراق ومالكية مصر، بين العقل والمصلحة. والحنبلية تذكر بالنص. فلا تعارض بين المذاهب بل إن ثمة تكاملاً بينها. وما فائدة أن ينتسب المرشح إلى دين بعينه أو طائفة بعينها أو فرقة كلامية بعينها أو مذهب فقهي بعينه؟ ما يهم الناخبين هو برنامجه السياسي، موقفه من الحريات العامة، ومن العدالة الاجتماعية، تصوره للحد الأدنى والحد الأعلى للأجور، برنامجه لمحو الأمية، وعلاج مشكلة البطالة والمرض والإيواء، وسياسته الخارجية مع دول الجوار، وموقفه من أعداء مصر والعرب التقليديين، كإسرائيل، وخطته لتحرير فلسطين، وتنمية الموارد من أجل عدم الاعتماد على المعونات الخارجية أو الاقتراض من البنك الدولي. بل إن الناخبين يريدون سماع رأيه في المحاكمات الدائرة الآن لرموز النظام السابق، وكيفية استعادة أموال مصر المهربة، وتصوره للدولة المدنية، وموقفه من المجلس العسكري، والحد الأدنى من البرنامج الوطني الذي يتفق فيه مع باقي التيارات السياسية. وأين الهوية الوطنية؟ فتحديد هويته بأنه مسلم سني سلفي حنفي لم يقل إنه مصري عربي. والهوية الوطنية والقومية تأتي أولًا. ضمن نظرية الدوائر الثلاث للتحرك المصري كما تصوره عبد الناصر. لِمَ الدخول في سجال فرق تاريخية مضت لا يتذكرها أحد وترك التحديات المعاصرة؟ هل القصد تجميع أصوات الناخبين بعد مكاسب التيار الإسلامي في الانتخابات الأخيرة لمجلسي الشعب والشورى؟ ولماذا يكون الاعتماد على تيار واحد دون آخر فيكون المرشح وكأنه أعور يرى العالم بعين واحدة، أو أعرج يسير على ساق واحدة؟ لماذا لا يدافع عن المصالح العامة ويصوغ برنامجاً وطنيّاً يلتف حوله الجميع؟ لماذا لا يخاطب الإسلام المستنير، حلقة الوصل بين الإسلاميين والليبراليين، والمرشح أحياناً وفي بعض مواقفه محسوب على هذا التيار؟ هذا ليس نقداً لأحد المرشحين للرئاسة بل هو دفاع عنه، وتوسيع لرؤيته وجماهيره، واستمرار لحركة الإصلاح. فليس القصد هو السلطة بل العقل. السلطة ذاهبة، والعقل باق. ربما تكون الرواية عن هذا التصريح غير دقيقة أو غير صحيحة. فقد اختلط الحابل بالنابل في الترشيح للرئاسة. كَثـُر المرشحون، والكل يخاطب الأصوات. والثورة تريد من يدافع عنها وإلا دافعت هي عن نفسها.