تمثل قطر بمساحتها الصغيرة بين امتداد الصحراء من جهة حدودها مع السعودية وإطلالتها في اتجاه إيران من ناحية الخليج استمراراً للعالم العربي من ناحية وتماساً مع إيران من ناحية أخرى، وبالقرب منها توجد البحرين التي تستضيف الأسطول الأميركي الخامس، بالإضافة إلى أن قطر نفسها تضم على أراضيها أجزاء متقدمة من القيادة الأميركية الوسطى المسؤولة عن العمليات في الشرق الأوسط وأفغانستان، ولذا تتموقع قطر الصغيرة بحجمها في قلب الفشل الأميركي في المنطقة سواء العسكري، أو السياسي. وهذا الإخفاق يظهر واضحاً أيضاً في العراق وأفغانستان على حد سواء. ومع أن البعض في واشنطن ما زال يرفض الاعتراف بالفشل، إلا أنه شاخص أمامنا، حسب رأيي الخاص، ويتجلى في تراكم سلسلة من الأحداث ستقود في النهاية إلى تخلي أميركا عن إحدى مغامراتها العسكرية والسياسية الأكثر رعونة في تاريخها. والحقيقة أن المغامرة الأميركية الفاشلة بدأت منذ انتهاء الحرب الباردة التي كانت في الأصل مواجهة سياسية غير دموية مع روسيا السوفييتية أطلقتها إدارة آيزنهاور خلال الخمسينيات، ووقتها تمت الاستعاضة عن حرب حقيقية بأيديولوجية جديدة لمواجهة الاتحاد السوفييتي. وهكذا تعامل أيضاً المحللون الأميركيون مع الصين الشيوعية وما اعتبروه "آسيا الشيوعية" كتحرك مريب الغرض منه حشد الدول الآسيوية المتحررة حديثاً من ربقة الاستعمار في جبهة موحدة ضد الغرب ليمثل تهديداً حقيقيّاً ضد المصالح الأميركية. وفي عام 1954 تولت واشنطن زمام المبادرة في المستعمرات الفرنسية السابقة بالهند الصينية التي كانت تشهد تمرداً من أجل التحرر يصطبغ بطابع قومي، وهو التمرد الذي اعتبرته واشنطن اعتداء بتحريض من الصين الشيوعية في مسعى لجر الدول المتحررة إلى معسكرها الشيوعي. وضمن هذا السياق وجدت الولايات المتحدة نفسها تحت إدارة آي زنهاور ولاحقاً إدارة كيندي في خضم عقدين تقريباً من الحرب الأميركية لدعم جمهورية فيتنام المناهضة للشيوعية إضافة إلى التدخل في الدول المجاورة مثل كمبوديا ولاوس، وانتهت الحرب بهزيمة مذلة لأميركا أرغمتها على الانسحاب من الدول الثلاث كلها. ولكن الحرب الباردة بصراعاتها المتعددة أسدلت ستارها لتبدأ مواجهة أخرى وليشرع المنظرون الأميركيون في البحث عن عدو جديد، وهو ما تم بالفعل العثور عليه في تلك الراديكالية التي ظهرت بين المسلمين، والتي صُورت بأنها قادرة على التحول إلى حركة كونية تستعدي الغرب وتقيم "خلافة" على شاكلة أنظمة الحكم التي كانت سائدة في الشرق الأوسط خلال العصور الوسطى، والهدف هو رد متأخر على الحملات الصليبية التي قادتها أوروبا على العالم الإسلامي. وصُور أيضاً الصراع العربي- الإسرائيلي على أنه أحد تجليات هذا التحرك الإسلامي، فجاءت هجمات نيويورك وواشنطن التي نفذتها "القاعدة" في 2001 لتؤكد نظرية مروجي فكرة العدو الجديد. والحال أن تلك الهجمات كانت سبب الغزو الأميركي لأفغانستان لمطاردة "القاعدة"، وبعدها الاحتلال الأميركي للعراق في 2003 بعد اتهامه الزائف بحيازة أسلحة الدمار الشامل التي قد يستخدمها لمهاجة إسرائيل. وكل هذه الذرائع وُظفت لتبرير المغامرة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط أمام الرأي العام الأميركي الذي سهل التأثير عليه والتلاعب به، وبعد تسع سنوات تترك الولايات المتحدة العراق منقسماً على نفسه في مصير يشبه إلى حد كبير ما ستكون عليه أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي. ولعل المظاهرات الأخيرة التي عمت أفغانستان بعد حادثة حرق المصحف الشريف تشير بوضوح إلى ضخامة التحديات الأميركية وصعوبة سحب القوات، في الوقت نفسه. ولا أحد اليوم يأخذ على محمل الجد الخطط الأميركية المعلنة القاضية بالانسحاب من أفغانستان بحلول 2014 في ظل وضع أمني هش وغير مستقر. ولكن أيضاً لا أحد يعتقد ببقاء القواعد العسكرية الأميركية لمنع انزلاق الأمور، وفي أحسن الأحوال سيكون هناك انسحاب متفاوض عليه مع المتمردين بالإضافة إلى إشراك كل من باكستان والهند، وهو ما قد يبقي فعليّاً على إشراك "طالبان" والسماح بالتالي بمغادرة القوات الغربية دون تكرار سيناريو فيتنام ولا اضطرار قادة "الناتو" للتشبث بالمروحيات وهي تحلق هرباً من أفغانستان. وعلى غرار العراق لن تخلف أميركا في أفغانستان أيضاً سوى المأساة، ذلك أن التقارير الحالية تفيد بوجود نصف مليون نازح أفغاني داخل البلاد هربوا من بيوتهم بسبب العنف، هذا ناهيك عن القتلى والجرحى الذين خلفتهم سنوات طويلة من الحرب والتمرد، وكل ذلك نتيجة ما كان يفترض أن يكون تمريناً أميركيّاً لبناء الديمقراطية في البلدان الفاشلة وتحقيق أحلام الإمبراطورية بإقامة شبكة أمنية تغطي العالم وتتبع مباشرة للولايات المتحدة. غير أن كل تلك الأحلام ذهبت أدراج الرياح، بل حتى العدد الضخم من الدبلوماسيين الذين كان يفترض أن تحتفظ بهم الولايات المتحدة في العراق داخل سفارتها الكبيرة هناك أعلن مؤخراً عن تقليص عددهم بعدما رفضت السلطات العراقية الترخيص لقوات عسكرية تحميهم خارج القانون العراقي. وإذا كان هذا القرار الأخير بالإضافة إلى قرارات الانسحاب الأخرى من أفغانستان لم تفسر على نحو واضح، إلا أن الراجح اندراجها في إطار إدراك أميركا المتأخر لعدم جدوى مساعيها السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط وأفغانستان. وربما يكون السبب كما يذهب البعض تأهب واشنطن لمواجهة جديدة ضد إيران ما يدفعها إلى إخلاء المنطقة من جنودها الذين سيكونون هدفاً سهلاً في حال اندلاع مواجهة، والمأمول من كل ذلك أن تبقى المنطقة ودولها بمنأى عن الصراع لتنسج صداقات جديدة وتواصل ضخ الغاز والنفط إلى الأسواق العالمية. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"