منذ عدة سنوات كانت العلاقات بين بريطانيا وألمانيا تبدو ذات أهمية من الناحية التاريخية فحسب. ونظراً لوجود خلافات بين البلدين، حول العديد من المسائل والقضايا، فإنهما لم يتباحثا إلا عندما كان الأمر يتعلق بالطريقة التي يتعين بها على الاتحاد الأوروبي التعامل مع بقية العالم. وبنهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، كان التجاهل المتبادل بينهما قد وصل إلى درجة توقفت معها صحف التابلويد البريطانية أو كادت عن استخدام المانشيتات الصحفية المثيرة للألمان، والتي ميزت تلك الصحف خلال العقد الأخير من القرن العشرين. وكما يقول "فيليب أولترمان" الصحفي الألماني بصحيفة "الجارديان" البريطانية ومؤلف كتاب "مجاراة الألمان... تاريخ المواجهات الأنجلو ألمانية" الذي نعرضه هنا، فقد استمر هذا الوضع إلى أن جاءت أزمة اليورو الأخيرة لتفتح "جراحاً كان الكثيرون حتى ذلك الحين قد ظنوا أنها اندملت"، حيث وصل سوء الفهم بين البلدين ذروته خلال القمة الأوروبية في ديسمبر الماضي عندما لجأ رئيس الوزراء البريطاني إلى استخدام الفيتو للاعتراض على خطة المستشارة الألمانية لتحقيق "الاتحاد المالي"، وذلك بعد أن رفضت الأخيرة منحه ما بدا لها ضمانات غير منطقية لحماية مدينة لندن كعاصمة للاستثمارات المالية في العالم. ويرى "أولترمان" أن مستقبل اليورو سوف يتقرر لحد كبير بواسطة العلاقة التي تزداد توتراً على الدوام بين ألمانيا وبريطانيا، أي بين أقوى دولة في منطقة اليورو، والدولة الكبرى الرئيسية التي لم تنضم لمنظومته بعد. وهذا التنافر بين البلدين الكبيرين يعطي كتاب "مجاراة الألمان" ميزة أضافية ما كان سيحظى بها لو أن العلاقة بينهما كانت علاقة تواصل. ويمزج المؤلف ببراعة بين تجربته الشخصية في بريطانيا، وبين المواجهات الأخرى الشهيرة بين البريطانيين والألمان كالمواجهة بين "تاتشر" و"كول" وغيرهما من قادة البلدين، وذلك بغرض استكشاف المواقف المتباينة للبلدين حول كل شيء تقريباً، بدءاً من اللغة والسياسة وحتى الرياضة. يقول "أولترمان" إنه ولد في هامبورج والتحق بوالده الذي كان قد حصل على وظيفة في بريطانيا عندما كان هو في السادسة عشرة من عمره، أي في عام 1996 حين كانت العلاقات بين البلدين قد وصلت فيه إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية. ورغم أنه وقف في البداية حائراً أمام الكثير من جوانب الحياة في المجتمع البريطاني وبذل مجهوداً كبيراً لإتقان اللغة الإنجليزية والتعود على نوعية الطعام البريطاني، فإنه ألِف الحياة هناك تدريجياً حتى أصبح محباً لكل ما هو إنجليزي وبات من عشاق الأغاني الشعبية البريطانية وبارعاً في تقليد سخريات رفاقه من المراهقين البريطانيين. في معظم صفحات كتابه يتجاهل الكاتب الحرب العالمية الثانية وذكرياتها المريرة باعتبارها "ثقباً أسود"، لكنه يلاحظ في نهاية الكتاب أنه ليس بمقدوره تناسي الماضي النازي الذي لم يتحول إلى هاجس بريطاني وإنما إلى هاجس ألماني يصعب من دون النظر إليه فهم تاريخ" الجمهورية الفيدرالية" في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي هذا الجزء من الكتاب يقول إن شباب ألمانيا الغربية الذين خرجوا إلى الشوارع عام 1968 لم يكونوا يحتجوا على الحرب الفيتنامية، بل على الاستمرارية الخفية والمحسوسة بين الرايخ الثالث والجمهورية الفيدرالية. ويورد عبارة كاشفة قالها الشاعر الألماني هانز ماجنيس إينزنسيبرجر: "كان لدينا كل هؤلاء الأساتذة الجامعيين وكل القضاة وكل رؤساء الشرطة الذين كانوا نازيين سابقين وكان مطلوباً منا أن نتخلص منهم، لكن ذلك كان يتطلب قسوة وعنفاً يفضيان لقدر من الفوضى والارتباك". لكن لم يكن هناك مفر من اللجوء لذلك العنف الذي وصل إلى ذروته في السبعينيات على أيدي "الجيش الأحمر" الذي خاض نضالاً مسلحاً ضد الدولة. لكن ألمانيا العميقة كانت تتحول تدريجياً نحو المزيد من الليبرالية، وهو ما يعني في نظره أن الدول يمكن أن تتغير وأن تمر في نفس الوقت بـ"ثورة ذهنية" كانت ألمانيا في مسيس الحاجة إليها في الستينيات، رغم أن عيوباً عميقةً في النفسية القومية الألمانية قد تسربت إليها من الماضي وتحتاج لعلاج. أما بريطانيا فيرى المؤلف أنها تغيرت عميقاً وأن النفور من الألمان تحول إلى نوع من اللامبالاة تجاههم. وينهي كتابه بخلاصة متفائلة، مفادها أن هناك نوعاً من التقارب التدريجي بين البلدين، وهو تفاؤل قد تكذبه مؤشرات ودلائل منها أن صحيفة مثل "الجارديان" كتبت في سياق ردها على الاستجابة الألمانية لأزمة اليورو، افتتاحيةً عنيفة ضد ألمانيا اختارت لها عنواناً: "الإمبريالية المالية الألمانية"، مما يشي بأن الدولتين سوف تتباعدان أكثر بدلاً من أن تلتقيا حيث تتحول ألمانيا إلى مزيد من الهيمنة والسيطرة وتصبح بريطانيا أكثر تشككاً نحو كل ما هو أوروبي. سعيد كامل الكتاب: مجاراة الألمان... تاريخ المواجهات الأنجلو ألمانية المؤلف: فيليب أولترمان الناشر: فيبر آند فيبر تاريخ النشر: 2012