عندما ألف المفكر الفرنسي "رايموند آرون" كتابه المهم والأساسي في عام 1961 بعنوان "السلام والحرب بين الأمم"، كان يؤمن بالاعتقاد السائد وقتها وهو أن الفاعل الأساسي في العلاقات بين الأمم والبلدان هو الدولة باعتبارها الوحيدة القادرة على صياغة مستقبل البلدان وتحديد الوجهة والسياسة العامة لكل كيان على حدة. لكن منذ ذلك الوقت تغير العديد من المعطيات العالمية، وفقدت الدولة احتكارها التأثير على مجريات الأمور، الداخلية والخارجية، كما خرج عن سيطرتها المجال الاقتصادي مع دخول قوى أخرى على الخط باتت تنافس الدولة، بل وتتجاوزها، لاسيما في ظل العولمة الكاسحة والمرونة الكبيرة والمنفلتة أحياناً التي يتسم بها الاقتصاد المالي. وهكذا شهدنا في السنوات الأخيرة فاعلين جدد يزاحمون الدولة دورها التقليدي في التخطيط ووضع السياسات والتحكم في سير الاقتصاد، مثل الشركات العابرة للقارات، والمنظمات الدولية، مروراً بشبكات الجريمة المنظمة والمافيا التي أصبحت مؤثرة على الساحة الدولية وتضغط في اتجاه مصالح معينة. لكن الأكثر قوة بين تلك المنظمات التي صعد نجمها مؤخراً، تبرز وكالات التصنيف الائتماني الممسكة بخيوط الرفع من شأن الدول والحط منها، ومن تلك الوكالات القوية نجد "مودي وفيتش ريتيج"، ثم "ستاندارد أند بورز"، القادرتين على إسقاط الحكومات والتأثير في قرارات الأسواق والمستثمرين. وقد راكمت وكالات التصنيف الائتماني من أسباب القوة والنفوذ إلى درجة يحذر المراقبون من تغولها على الدولة وتقويضها للديمقراطية بإسقاط الحكومات المنتخبة، والتحريض عليها لدى المؤسسات الأوروبية للتعجيل برحيلها وإحلال مكانها حكومات تكنوقراطية على غرار ما جرى في اليونان وإيطاليا، أما في فرنسا فأدى التخفيض الائتماني من قبل تلك الوكالات إلى إقحام الأمر في حملة الانتخابات الرئاسية وتحوله إلى أداة للاستخدام السياسي والتنافس الحزبي. والحقيقة أن الدور الوازن الذي باتت تلعبه وكالات التصنيف الائتماني يثير العديد من الأسئلة المشروعة، فمن يقيم تلك الوكالات التي تبيح لنفسها إصدار الأحكام على مالية الآخرين والدخول في تفاصيل سياساتها الاقتصادية؟ ألا تتحمل تلك الوكالات جزءاً من المسؤولية في اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008 عندما عجزت عن التنبؤ بالانهيار المالي الذي لحق مؤسسات مالية كبرى كانت هي من أعطاها تصنيفاً عالياً؟ أليست هي من شجعت تلك المصارف الأميركية التي تهاوت على الانخراط في ممارسات مالية خطرة والتفنن في صنع منتجات مالية هشة ثبت ضعفها وخطورتها عند أول فرصة؟ بل الأكثر من ذلك، ثمة من يتهم وكالات التصنيف الائتماني بالرغبة في قتل اليورو الذي بدأ ينافس الدولار الأميركي من خلال الرهان ضده وتخفيض التصنيف الائتماني لعدد من دول منطقة اليورو لتنفير المستثمرين ودفعهم بعيداً عن الاستثمار في العملة الأوروبية الموحدة؟ لكن رغم مشروعية هذه الأسئلة التي تتعين إثارتها في هذه المرحلة الحرجة من الاقتصاد العالمي ومساءلة القوة المتضخمة التي باتت تحظى بها تلك الوكالات، فإنه علينا في المقابل ألا نسقط في فخ نظرية المؤامرة وتحميل تلك الوكالات أكثر مما تحتمل من خلال طرح أسئلة أخرى من قبيل: ألم تكن الحكومات الأوروبية التي تشتكي اليوم من تضخم دور وكالات التصنيف الائتماني هي نفسها من أوكل لها دور مهم في مراقبة العمليات المالية للدول؟ فكيف احتفت بها وشجعتها بالأمس لتعود وتشتكي منها اليوم؟ لا شك أن الأمر يرتبط بتغيير مواقف تلك الوكالات. صحيح أن الوكالات المتهمة باستهداف الوضع المالي للحكومات تسيطر عليها جهات أنجلو ساكسونية، لكن ذلك راجع إلى قوة القطاع المالي في هذه الدول، فمعروف أن أسواق المالي في نيويورك ولندن هي الأكبر عالمياً، وفيما كان دور الوكالات يقتصر خلال السبعينيات والتسعينيات على تسهيل عملية التصدير وتقديم المشورة للمستثمرين، بات دورها اليوم في ظل العولمة يتخطى ذلك بكثير. وبدلاً من تحميل تلك الوكالات دوراً أكبر منها واتهامها بالمتاجرة بأزمات الدول ومآسيها، لابد من التذكير بأن من أسقط الحكومات في أثينا وروما ليس تصنيف الوكالات، كما يدعي البعض، بل البرلمانات الوطنية في تلك الدول وباحترام كلي للمقتضيات الدستورية المتبعة. أما سبب سقوط الحكومات فهو داخلي بامتياز، ويتعلق في حالة اليونان بالإفراط في الإنقاق والتبذير المالي الذي انخرطت فيه الحكومات السابقة، ما أدى إلى التخلف عن السداد وانسداد الأفق السياسي، مما فرض التغيير بتوافق مع البرلمان. وفيما يتصل بإيطاليا فمعروف التجاوزات الأخلاقية والسلوكية لرئيس الوزراء السابق، برلسكوني، فيما البلاد تمر بأزمة ديون، لذا يمكن القول إن رأي وتصنيف الوكالات الذي يزعج الحكومات يعكس وضعاً قائماً ولا يخلقه، بل إنه من الناحية الاقتصادية الصرفة يمكن للدول القوية التصرف حتى بعد تخفيض تصنيفها، على غرار فرنسا التي تستطيع طبع الأوراق المالية في حال تعذر عليها الاقتراض أو ارتفاع كلفته، لكن يبقى أن مثل هذه التخفيضات تسيء لصورة السياسيين -وهنا بيت القصيد- الذين جعلوا من التصنيف الائتماني مسألة كرامة وطنية، أو ورقة انتخابية لكسب تأييد الناخبين. بيد أن هذه الوكالات التي تثير كل هذه المخاوف سترجع إلى حجمها الطبيعي ما أن تمر الأزمة وتنقضي، ذلك أنه بدون المصاعب المالية ومشاكل الحصول على القروض ما كان لوكالات التصنيف الائتماني أن يصعد نجمها ويتضخم دورها، وهي إن كانت تستمر في لفت الانتباه وإصدار الأحكام على الوضع المالي للدول، فذلك لأننا نعيش في عصر لم تعد فيه الدولة الفاعل الوحيد على الساحة الاقتصادية، بل أصبحت لاعباً ضمن مجموعة من اللاعبين يتنافسون على النفوذ والتأثير.