بعد فترة وجيزة على هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية التي شنها تنظيم "القاعدة" على مدينتي واشنطن ونيويورك الأميركيتين، غادرْتُ الكنيسة التي خدمْتُ بها قسيساً رئيسياً لمدة 12 سنة متواصلة، وذلك شعوراً مني بنداء للعمل من أجل السلام والعدالة في مكان آخر من هذه الأرض. سافرت صعوداً ونزولاً على الشاطئ الشرقي للولايات المتحدة، بغرض الحديث عن السلام وعن التسوية السلمية وإيجاد حلول للنزاعات والتوسّط فيها حيثما وجدْتُ جمهوراً يسمع، في كل مكان: في الكنائس وأماكن العبادة اليهودية والمنظمات الدينية والمدارس والنوادي الرياضية والثقافية والاجتماعية. رأيت هجمات الحادي عشر من سبتمبر على أنها جرائم ضد الإنسانية ارتكبتها مجموعة صغيرة من الأفراد، المحفّزين سياسياً وعقائدياً، استخدموا الدين كوسيلة لتبرير أعمالهم الهمجية تلك. سعيتُ حينئذ لأن أعرض وأدافع عن رد مختلف من جانب الولايات المتحدة بدلاً من اللجوء إلى رد عنيف ومماثل سيزيد من تصاعد العنف... رد أكثر انسجاماً مع النصوص السلمية بشكل شامل للأديان الإبراهيمية. وفي هذا الإطار ساعدْتُ على إيجاد تحالفات من رجال الدين اليهود والمسيحيين والمسلمين، ممن يعارضون سياسات الحرب التي تتبعها الولايات المتحدة، والذين هم مستعدون لاستخدام ما يملكونه من سلطة معنوية لتشجيع السلام بدل سياسة القوة واستخدام العنف. لم يكن هناك مناص في كل مكان ذهبت إليه من أن يوجد أحد في الجمهور يقف ويتناول كلماتي وكل ما أطرحه من أفكار حول السلام، بالسخرية والتقريع والتسخيف. كان الغضب الذي شعر به الأميركيون وقتها حيال الإسلام غضباً قوياً وعميقاً. ولسوء الحظ فإنهم كانوا مقتنعين إلى حد كبير بأن الإسلام دين مليء بالحقد والعنف. وككثير من الأميركيين، فقد أصابتْني الهجمات الإرهابية بالصدمة والحزن والخوف كذلك، لكني مع ذلك كنت مقتنعاً بأن ثمة أسلوباً أفضل للرد على مرتكبيها وللانتقال قدماً نحو السلام وليس إعلان الحرب. مرّ عقد من الزمان وقد وجدت نفسي أستاذاً بجامعة التنمية البشرية في مدينة السليمانية الكردية في شمال العراق، وهو مركز قبلْتُ به لرغبتي في أن أكون صانع سلام. أردْتُ أن أثبت لسكان العراق أن هناك أميركيين يؤمنون بحل النزاعات على نحو سلمي وحضاري، كما يؤمنون بحوار الأديان والتعايش بين أصحاب الديانات أياً كانت اختلافاتهم. وإضافة إلى ذلك، فقد أردْتُ الإقامة في الشرق الأوسط، حيث قررت خوض تجربة الثقافة والدين والجو العام في دولة مختلفة. الجامعة والمنطقة بأسرها مسلمة بشكل كامل، وهناك بعض المسيحيين واليهود يعيشون بسلام مع جيرانهم في هذا الجزء من العراق. وقد سنحت لي فرصة حضور شعائر الصلاة في المسجد، وسمعت نداء الصلاة الجميل وكان صداه يرن في أرجاء المدينة، وشهدْتُ المسلمين وهم يؤدون صلواتهم اليومية. وبعد كل ذلك لم يعد لدي شك في أن هؤلاء الناس يعرفون الله، وأن لديهم عاطفة متدفقة للعيش بإيمان والسعي من أجل الحرية والسلام. ورغم أن المنطقة عانت من الاضطهاد لقرون عديدة، فهناك اليوم تطلع عميق يسودها، تطلع نحو بناء عالم جديد تعم فيه العدالة والحرية والديمقراطية والسلام. وعودة إلى الولايات المتحدة، أذكر أن لدي صديقة جيدة تدرّس بعض الصفوف في مدرسة ثانوية مقرراً دراسياً حول ديانات العالم. وقد أخبرتني مؤخراً بأن تلامذتها يصارعون مع موضوع الإسلام بسبب الأسلوب الذي يتم به تصوير هذا الدين في الإعلام الأميركي والثقافة السائدة في الولايات المتحدة، وطلبَت مني المساعدة لتخطي هذه الصعوبة مع تلامذتها. وقد تمكنّا معاً من تنظيم حوار على "سكايبي" بين صفها في الولايات المتحدة وسبعة طلاب من جامعة التنمية البشرية هنا في السليمانية بكردستان العراق. وقد تكلّم الطلاب من الجانبين عن العلاقة بين المسيحية والإسلام، وحول دور المرأة في الإسلام، وأظهروا رفضهم المشترك لبن لادن، كما أعربوا عن رغبة مشتركة أيضاً في مستقبل يسوده السلام والوئام والتعايش السلمي بين أتباع الديانات السماوية الثلاث. اهتم الطلبة الأميركيون بمعرفة المزيد عن الإسلام من خلال طلابي العراقيين، كما اهتم طلابي بتعلُّم المزيد عن المسيحية من خلال نظرائهم الأميركيين. وبذلك فقد سادت روح من الصداقة بيننا ونحن نخلق مساحة من الأرضية المشتركة. مرّ الوقت بسرعة، وقمنا بترتيب حوار لاحق تم من خلال البريد الإلكتروني والفيسبوك والسكايبي. أتمنى لو كنت أستطيع إحضار هؤلاء الناس الذين انتقدوا أحاديثي بعد الحادي عشر من سبتمبر بعنف، قبل عقد من الزمان، إحضارهم هنا إلى مدينة السليمانية العراقية. أتمنى لو أستطيع محادثتهم على السكايبي في حديث جماعي مع طلابي ومع الرجال والنساء الذين قابلتهم هنا في شمال العراق. أتمنى لو أستطيع جمعهم مرة أخرى لأريهم، رأي العين وعلى أرض الواقع، وجهاً آخر للإسلام يختلف عن وجه بن لادن وعن وجه الدمار الذي أحدثته هجمات تنظيمه على رموز القوة الأميركية في ذلك اليوم الشهير من أيام سبتمبر 2001. ------- واين لافندر أستاذ بجامعة التنمية البشرية في السليمانية -------- ينشر بترتيب مع خدمة "كومون جراوند" الإخبارية