في ظل المشاكل التي تعانيها أفغانستان وعدم استقرار الوضع الأمني هناك، ينبغي التساؤل عن المنطق الذي يحرك سياسة أوباما تجاهها، لاسيما وأنها تبدو غير منطقية. ففي عام 2009 أمر أوباما بزيادة عدد القوات الأميركية في أفغانستان لمواجهة "طالبان" وشبكة حقاني على الأرض، وهكذا ارتفع عديد القوات الأميركية من 34 ألفاً إلى نحو 100 ألف جندي. وللإشراف على الزيادة الجديدة، أرسل أوباما جنرالين من الجيش هما "ماكريستال" و"بتراويس"، لبلورة وتطبيق خطة شاملة لمكافحة التمرد التي سبق للرئيس أن أقرها ودافع عنها، لكن بحلول يونيو الماضي اتضح أن أوباما انقلب على سياسته بإعلانه عودة 32 ألف جندي إلى أرض الوطن في موعد لا يتعدى سبتمبر 2012، وهو أبكر مما اعتبره بتراويس وباقي العسكريين موعداً مناسباً للانسحاب. فهذه الخطوة تضع مجمل خططهم العسكرية في مهب الريح وتعرضها للخطر، لاسيما بعد استعداد القوات الأميركية للانتقال من الجنوب الذي تمت السيطرة عليه إلى الشرق الأكثر شراسة. ثم تلا إعلان لوزير الدفاع (بانتيا) أوضح فيه أن القوات الأميركية في أفغانستان ستنتقل مهمتها بحلول السنة المقبلة من العمليات القتالية إلى المهام الاستشارية. بل هناك إشاعات مفادها أن أوباما سيعلن عن سحب جديد للقوات الأميركية، وأن أقل من 10 آلاف جندي سيبقون في أفغانستان بعد 2014. وتستند هذه السياسة التي تنتهجها الإدارة، والقائمة على خفض متكرر لعدد الجنود، إلى فكرة تقدم القوات الأفغانية لتسلم المهام الأمنية بنفسها وملء الفراغ. فمنذ 2009 قام "الناتو" بعمل جيد فيما يتعلق بتدريب القوات الأفغانية، حيث تشكلت قوة مشتركة من الجيش والشرطة وصل قوامها 352 ألف عنصر، لكن مع ذلك تحوم الشكوك حول جودة تلك القوات ومدى استعدادها لخوض المعارك، لاسيما وأن أي تدريب فعال يعتمد بالأساس على المشاركة في معارك على الأرض برفقة قوات "الناتو"، وهو أمر سيغدو صعباً بعد انسحاب العدد الكبير من القوات الأميركية. كما أن عدد القوات الحالي للقوات الأفغانية لا يكفي، بحيث يتطلب بلد مثل أفغانستان بسكان يصل عددهم 30 مليون نسمة، ما بين 500 ألف و600 ألف جندي ورجل أمن لمراقبة الوضع. والحال أن العدد الحالي لا يتجاوز 352 ألف عنصر. والأكثر من ذلك أن الولايات المتحدة تدرس حالياً، حسب ما نقلته صحيفة "وول ستريت جورنال"، خططاً لتقليص حجم القوات الأفغانية إلى 230 ألف جندي ورجل أمن، وهو ما دفع وزير الدفاع الأفغاني، الجنرال عبد الرحيم ورداك، للتحذير من أنه سيكون كارثياً. ولنتأمل فقط الوقع السيئ الذي سيخلفه تسريح 120 ألف جندي أفغاني كانوا يتلقون رواتبهم من الحكومة ليجدوا أنفسهم دون مصدر رزق. لاشك أن العديد منهم سيضطرون لتقديم خدماتهم للمتمردين أو التعاون مع تجار المخدرات. وفي ظل هذا الواقع قد يتفكك ما تبقى من القوات الأفغانية بانضمام "البشتون" إلى طالبان و"الطاجيك" و"الهزارا" وباقي الإثنيات إلى "التحالف الشمالي"، لينفتح المجال بذلك أمام حرب أهلية شبيهة بتلك التي دمرت البلاد خلال تسعينيات القرن الماضي وقادت إلى ظهور "القاعدة". لماذا إذن تذهب الإدارة الأميركية في هذا الاتجاه رغم كل الأخطار الماثلة؟ السبب هو توفير بضعة مليارات من الدولارات في ميزانية فدرالية تصل 3.8 تريليون دولار، إذ يبدو أن الإدارة قررت أنه لم يعدد بالإمكان الاستمرار في تحمل الكلفة السنوية لحرب أفغانستان والبالغة 11.2 مليار دولار، مفضلةً خفض تلك الكلفة إلى 5.7 مليار دولار خلال السنة المالية 2013 وإلى 4.1 مليار دولار في 2014. فأوباما، ورغم كل الحديث عن شعبيته الطاغية في الخارج، فشل في إقناع باقي الدول بالمساهمة في التكاليف. ولا تقتصر مساعي الإدارة الحالية على تقليص القوات الأفغانية وتوفير بضعة مليارات، بل تشمل تقليص المجهود الحربي الأميركي في أفغانستان لخفض النفقات. فقد طالبت الإدارة بـ 88.5 مليار دولار لتمويل نفقات الحرب في السنة المقبلة، أي أقل بنحو 26 مليار دولار مقارنة بالسنة الماضية، وهو رقم مرشح للانحدار أكثر خلال السنوات المقبلة، لكن من الصعب تصور اكتراث أسواق السندات بما يقوم به أوباما من خفض لنفقات الحرب في أفغانستان ببضعة مليارات، فيما العجز أكبر من ذلك بكثير. فالأموال التي يسعى أوباما وفريقه لخصمها من أفغانستان، قد تلعب دوراً أهم في أرض المعركة أكبر مما تتخيله الإدارة الأميركية. وربما تعول واشنطن في تقليصها للقوات الأميركية والأفغانية على قرب التوصل إلى سلام مع "طالبان" وإنهاء التمرد، والحقيقة أن "طالبان" تملك القليل من المحفزات تدفعها للتفاوض الجاد، فمقاتلوها يعرفون أنه ما عليهم سوى الانتظار بضع سنوات حتى يختفى معظم خصومهم الخارجيين والمحليين ليخلوا لهم الجو. وفي الوقت الذي يعتقد أوباما أنه بسياسته ينهي حرباً ورثها عن سلفه، تبقى الحقيقة أنه بخفض النفقات في أفغانستان يسهم فقط في تأجيج حرب أكبر تهدد ليس فقط أفغانستان وجيرانها، بل الأمن الأميركي أيضاً. ــــــــــــــــــــــ ماكس بوت باحث في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"