استخدمت كل من روسيا والصين "حق النقض" (الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن حول الشأن السوري، والذي كان قراراً ضعيفاً على أية حال. وأعطى ذلك الموقف جرأة غير مسبوقة للنظام في دمشق على المضي قدماً في مجازره الوحشيّة (وتكثيفها أيضاً) ضد أهل مدينة حمص المحاصرة، حيث يُعتقد أن عدد القتلى (وأغلبهم على أيدي قوات الحكومة) تجاوز 8000، حيث لا تتوافر حتى الآن أرقام دقيقة، وذلك لعدم السماح لمراقبين مستقلين أو للإعلام بدخول البلاد. ونعتمد نحن، لمعرفة ما يحدث في سوريا، على ناشطين جسورين، يعملون ببسالة في حمص وحماة وإدلب ودرعا وغيرها من المدن السورية، حيث يصرون على التعبير عن ثورتهم وإيصال صوتها وصورتها لعالم أعمى تعمد تجاهلها، وقد يصعب أحياناً قراءة كلماتهم المكتوبة، لكن أفلامهم المصورة تزرع في ذاكرتك مشاهد ترى فيها لحماً منزوعاً عن العظم، مما يجعلك تتساءل: "هل كان سابقاً يشبه الإنسان؟". لعله إنسانٌ مثلك، أو مثل جارك أو طبيبك. طفل مثل أخي، أو اثنان مثل أبناء عمّي، أو أربعة مثل أصدقائهم الذين يلعبون معهم في أمان في حديقة منزلنا... كلهم أموات، على الأرض يتمددون، وعلى بطونهم وظهورهم آثار الأعيرة النارية. حتى الجنين في بطن أمه لم يسلم من رصاصات الغدر تلك، هم هناك يسبحون في بركة من دماء، تشهد عليهم أعيننا المذهولة وقد اتسعت حدقاتها خوفاً وحزناً وغضباً وخجلاً وعاراً. ثمّة دائماً أصوات في الأفلام المصورة تلك: أصوات تتحدى الظلم، وتقاوم الوحشية، أصوات مهيبة جليلة، فيقول لنا داني عبد الدايم: "لسنا حيوانات، نحن بشر نطلب النجدة"، ويوثق الدكتور محمد المحمد كل حالة تأتيه في "المشفى الميداني" بما تبقى من صوته المبحوح. وهناك صرخات الجرحى الذين لا يعلمون (ولا تعلم أنت) إذا كانوا سيحيون ليروا يوماً جديداً. وأخيراً، هناك صوت بشار الأسد يأتيك في القنابل... يتفجّر منها وفيها، الصوت ليس بعيداً وليس قريباً، لكنه هناك. وتتساءل أنت: كم من الأرواح أزهقت وأنت تستمع، وكم منها ستبقى سجينة ما شهدت عليه! وتترك الشاشة، وتغفو قليلاً آملاً ألا يزداد عدد القتلى، لكن ثمة إدراكاً حزيناً يداخلك بأن العدد سيكون أكبر حين تستيقظ، سوف يموت الناس وأنت نائم. إن هذه الأصوات في جميع أنحاء سوريا ما هي إلا أصداء للخلل في مجلس الأمن، أصداء مجتمع دولي مشلول، أصداء "حق النقض"، والذي هو حق حصري لا تتمتع به سوى الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، أي الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن، لضمان إفشال أي قرار لا يعجبهم. فماذا تبقى من شرعية مؤسسة في الأمم المتحدة تعاني من نزاعات وخلافات وصراعات أسست أصلاً لتخفيفها! وماذا تبقى من شرعية مؤسسة لا تقدّم لدول كالهند، واليابان، وألمانيا عضوية دائمة؟ أو أية دولة أفريقية، إسلامية، أو أميركية جنوبية؟ باتت المقترحات لإصلاح حال مجلس الأمن أوراقاً على الأرفف تتدثر بالغبار، في حين بدا واضحاً لنا بأن فشله في معالجة الأزمات الدولية هو القاعدة وليس الاستثناء، وليس مثال لإظهار هذه الحقيقة أفضل من الصراع العربي الإسرائيلي. ويعتقد البعض أن الحل لتلك المشكلة يمكن أن يكمن في قرار «متحدون من أجل السلام» تتبناه الجمعية العامة. فإذا فشل المجلس في الارتقاء إلى ميثاق الأمم المتحدة، وفي تحقيق مسؤوليته تجاه السلم والأمن العالميين، يفترض (نظرياً على الأقل) أن التصويت بأغلبية الثلثين في الجمعية العامة ينجح فيما فشل في تحقيقه مجلس الأمن. غير أن نقل قرار من مجلس الأمن إلى الجمعية العامة يستغرق وقتاً طويلاً بسبب بيروقراطية الأمم المتحدة الأسطورية، وهذا الوقت هو مالا يملكه من يعيشون حالياً تحت القصف المستمر. فمثلاً استغرق التصويت لاتخاذ قرار -رمزي أصلاً- في الجمعية العامة ما يقارب الأسبوعين، وخلال تلك المدة هلك ما لا يقل عن 800 شخص تحت نيران القصف. غالبًا ما تتجسّد اتفاقات واختلافات السياسات العالمية في مشهد تُستبعد فيه أصوات وتجارب من هم في قلب الأزمة، والقرارات التي تتخذ أو لا تتخذ في تلك الأماكن البعيدة، تناقش دون أي إشارة جدية لتلك الأرواح التي هي أكثر تأثراً بها. نتحدث ونناقش فشل المجتمع الدولي، كما لو كان موضوعاً أكاديمياً مجرداً، كما لو لم تكن هناك مجتمعات تواجه أزمات مصيريّة. قبل بضعة أيام، توفي أنثوني شديد، صحفي «النيويورك تايمز» اللامع في سوريا إثر أزمة ربوية، وقد حاول أنثوني أثناء حياته أن يضع أناساً عاديين عالقين في فوضى دموية عارمة -في سوريا والعراق وفلسطين ولبنان- في مركز مقالاته، علّنا نفهم أن هناك أناساً تعلقت مصائرهم بتلك القرارات. مأساة الشعب السوري هي أحدث مثال على فشل مجلس الأمن خاصة والمجتمع الدولي عامة في التعاطي مع الأزمات الدولية. فمما لا ريب فيه أن أولى الأولويات هي وضع حد فوري لسفك الدماء ومحاسبة الأسد وحكومته، لكننا يجب أن نرفض تغييب الأولوية الكبرى والموضوع الأهم: فأناس، أناس مثلنا بآمال وطموحات، أناس يبدون شجاعة استثنائية في حالات لا نتخيلها، خُذلوا من أناس، أناس مثلهم. وعلى حد قول سفير فرنسا لدى الأمم المتحدة قبل أسبوعين، فإن أقل ما يجب أن يُحدثه ذلك هو أن يُفاقم عارنا. معاذ الوري كاتب إماراتي