كان أهل حمص ينتظرون اقتراب موعد الاستفتاء، لكي يخفّف الأسد من غلوائه، فيسمح لهم بالتنفُّس، رجاء أن يوافقوه في الذهاب إلى صناديق الاستفتاء! وما حصل أيٌّ من ذلك، ولذا فلن يذهب الناس إلى صناديق الاستفتاء، لأن السوريين ما عرفوا من نظامهم غير الفتك والقتل! وبغض النظر عن رأي الواقعين تحت رحمة القتل، لماذا يُجري النظام السوري هذا الاستفتاء إذن؟! لقد اختلفت في ذلك أنظارُ المراقبين حتى من داخل النظام. فمنهم من يقول: لقد وعد الرئيس بالإصلاح، وها هي خطوة واسعة تتحقق مع الدستور الجديد! وكان هناك من قال إنه يريد إثبات وجود كثرة من السوريين لاتزال تؤيده، كما يبدو من الخروج يوم الاستفتاء. وكان هناك من قال إنّ المقصود من الاستفتاء الإثبات للغربيين أنّ النظام ليس ضعيفاً ولا عاجزاً، وسيظل مصراً على "برنامجه" المعلن مهما تكن الصعوبات: التغيير باتجاه الديمقراطية، وفي الوقت نفسه الإصرار على فرض الاستقرار مهما كلّف الأمر! إنما لماذا هذا الإصرار من جانب النظام السوري على الاستبداد والقتل، رغم معرفة الجميع أنّ زمناً جديداً دخل، وأنه لا إمكانية لانتزاع البقاء مهما بلغ من هول المذابح؟! وبالتأكيد؛ فإنّ أحداً لا يعرف يقيناً كيف يفكّر النظام الآن في دوائره العليا بمسألة البقاء وأعبائها وتكاليفها. فالذي حصل في سوريا ويحصل منذ عام، حصل مثله أو أقلّ في أربعة بلدانٍ عربيةٍ فأدّى إلى سقوط النظام، وهكذا فالمنطقيَّ أن يقال إنّ النظام سيسقط في سوريا أيضاً! وربما لم يكن أرباب النظام يصدقون ذلك في الشهور الأولى إذ كان الأسد نفسه قد قال إنّ أحداً لا يستطيع إلاّ أنّ يفكّر في إمكان السقوط. ولذا فقد كان من التوقَّع أن يُقْبل النظام على الأخذ بالمبادرة العربية، والتي تؤمّن مساراً أو تحولاً تدريجياً، يفيد منه النظام بشكلٍ عام، وإن أدّى إلى ذهابه خلال عامٍ أو عامين. وهو لم يفعل ذلك في نظر المراقبين، لأنه مطمئنٌّ إلى مواقف كلٍ من إسرائيل وإيران وحلفائهما. فإسرائيل ظلّت مع النظام بعد نشوب الحراك ضده أكثر من ستة أشهر، ثم انقسم السياسيون: اليمين مُصِرٌّ على فائدة بقاء الأسد، والوسطيون والليبراليون يعتبرون أنه من الأَجدى التفكير بمن بعده، لأنه ساقطٌ لا محالة! وبعد جهدٍ جهيدٍ اتفق الطرفان على النأْي بالنفس أو عدم الكلام علناً مهما حدث في سوريا، لأنّ الإسلاميين قادمون بعد الأسد، وهم أسوأ بأي حالٍ على إسرائيل من الأسد ونظامه. وقد انعكس هذا الموقف الإسرائيلي على الموقف الأميركي، فمنذ الشهر الثالث أو الرابع على الثورة السورية، هناك تصريحات يومية عن ضرورة تنحّي الأسد، وقد بادرت أميركا وأوروبا إلى إيقاع عقوباتٍ مؤلمةٍ بالنظام في سوريا، لكنّ الأميركيين على الخصوص خفضوا حملاتهم أخيراً مُراعاةً لوجهة النظر الإسرائيلية، ولأنهم لا يريدون فتح جبهةٍ جديدةٍ في سنة الانتخابات. والاعتبارات الأميركية هي الاعتبارات التركية. فقد تحمّس الأتراك كثيراً عندما لم يكن العرب الخليجيون متحمسين. وقد أتاحوا للثوار والنازحين ملاذاتٍ آمنةً بتركيا. لكنهم ما لبثوا أن توقفوا عن الحماسة: بسبب تردد الأميركيين، وبسبب المصالح الاستراتيجية المتبادلة مع الإيرانيين. وما يقال عن الأتراك والأميركيين يقال أكثر منه عن إيران. فطهران حليفة النظام السوري منذ مطلع الثمانينيات، وعبر هذا التحالف أمكن الوصول إلى نشر مناطق النفوذ بالعراق ولبنان. ووسط التهديد الزاحف الآن، يكون من الخطأ إظهار أي تنازل. ولذا انصبّت المساعدات الإيرانية على النظام السوري وستظلُّ تنصبُّ، ولذلك أيضاً يظلُّ النظام السوري واثقاً من صلابة موقفه لأنّ دعم إيران لن يتزعزع. وقد دفعت عواملُ مختلفةٌ روسيا والصين للوصول إلى الموقف نفسه. وبالإضافة لذلك كُلِّه؛ فالنظام السوري يعيش في محيطٍ آمن: إسرائيل والعراق ولبنان، إضافةً إلى أنّ الأُردنّ لايزال شديد التردد حتى الآن! إنّ هذه الاعتبارات هي الحوائل التي تحولت إلى تحصيناتٍ يقف النظام السوري خلفها في مساعيه للبقاء. ولا شكَّ أنّ الهجمة على المواطنين والقتل المستمر هما من عوامل الضعف وليس القوة. كما أنّ من عوامل الضعف ما يحصل لديه من انشقاقاتٍ، والوضع الاقتصادي المتردي، والعزلة السياسية العربية والعالمية. بيد أنّ أهمَّ عوامل الضعف هي كما كانت منذ الشهر الأول للأزمة: إصرار الشباب في النواحي الخمس على إسقاط النظام: درعا وحماة وحمص وإدلب وريف دمشق. وتُضاف الآن دمشق ذاتها وربما حلب. وقد أظهر الشعب السوري استعداداً هائلاً للتضحية وللصمود في الخنادق عندما لا يستطيع التقدم. وقد استطاع تشكيل المجلس الوطني، واستطاع تحت ضغط الجمهور الغاضب إرهاق الأجهزة الأمنية والتأثير على معنويات الجيش وتماسكه؛ فضلاً عن الإرهاق الشديد الذي نزل بالجميع، وهذا التحدي الأسطوري الذي شكلته أحياء بابا عمرو والخالدية والإنشاءات بحمص! وهناك من جهةٍ أُخرى الإصرار العربي المتنامي منذ منتصف 2011. وقد تقدمت قطر الصفوف، ثم تبعتْها سائر دول الخليج فالدول العربية. ومن تصريحات العاهل السعودي ضد القتل، وصدامه مع الرئيس الروسي، نتبين أنّ السعودية مُصرَّةٌ الآن على العمل بكلّ سبيلٍ لوقف العنف والقتل في سوريا. وعلى أيّ حال؛ فإنّ دول الخليج قادت العرب بالجامعة إلى طرح المبادرة المعروفة، واستحصلت على موافقة الأوروبيين والأميركيين والأتراك عليها. ثم مضت إلى مجلس الأمن بالمبادرة على أثر الفشل مع النظام السوري. وعندما واجهت المبادرة الفيتو الروسي والصيني، تبلورت المجموعة الدولية الضخمة المعروفة بأصدقاء سورية، والتي اجتمعت أول من أمس، ورسمت خطةً للضغط على النظام السوري حتى يتوقف عن القتل أو يسقط. وما عاد خافياً أن التدخل بسوريا لن يتخذ الشكل الذي اتخذه بليبيا، ولا شكل التدخل الخليجي باليمن. فلن يكون هناك تدخُّلٌ عسكريٌّ من جانب قواتٍ أجنبية، لكنْ ربما جرى فرض مناطق آمنة أو ممرات آمنة أو تأمين الظروف للإمدادات الصحية والغذائية. إنما من جهةٍ أُخرى هناك الدعم بكافة أشكاله- ومنها العتاد العسكري للمعارضة بالداخل، والدعم المادي والسياسي للمجلس الوطني السوري. وإذا نجح العرب والدوليون في توحيد المعارضة بالخارج، وفرض نوع من التنسيق والتنظيم للمعارضة العسكرية بالداخل؛ فإنّ النظام لن يصمد طويلاً مهما تردد الإسرائيليون، ومهما تعهّد الإيرانيون و"حزب الله" والمالكي بالدعم والتأييد! لقد كانت شهوراً قاسيةً وقاسيةً جداً على الشعب السوري. إنما بعد مؤتمر أصدقاء سوريا فإنّ الوضع انتقل من الثبات والدفاع إلى الندية والهجوم. وبين أسباب انقلاب الوضع لمصلحة الشعب السوري، سقوط هيبة النظام، بحيث ما استهان النظام بالقتل فقط؛ بل استهان الضحايا أيضاً، وهذا عاملٌ مُهمٌّ في إسقاط الخوف، وفي الاندفاع للمواجهة، ويضاف إليه إحساس المحتجين بأنّ المستقبل لهم، وإحساس أهل النظام أنهم من مواريث الماضي. قال العاهل السعودي للرئيس الروسي إنه لا حوار مفيداً معه ولا مع النظام السوري، لأنّ الروس آثروا الفيتو على التفاوُض، ولأنّ النظام السوري يستمر في قتل شعبه. أمّا الوقوف مع الشعب السوري فأمرٌ يقتضيه الدين وتقتضيه الأخلاق. ولذا يمكن القول الآن إنّ الدم العربي السوري سوف ينتصر على السيف.