مجدداً أقول: إذا كانت الرياح التي هبّت على العالم العربي، ودفعت باتجاه إجراء انتخابات تشريعية في أكثر من مكان ووصل من خلالها إسلاميون أو غيرهم، فهذا شأن إيجابي يؤكد خيار الناس الذين عبّروا عنه في صناديق الاقتراع، ولا بدّ من احترامه ويفرض على المسؤولين الجدد أو الحكام الجدد احترام حقوق كل المواطنين وحماية المسار الديمقراطي، الذي أوصلهم ليتمكن الآخرون الذين كانوا ضدهم من لعب دورهم في سياق انتظام الحياة السياسية والإحتكام إلى رأي الناس، وبالتالي إفساح المجال أمامهم لتداول السلطة. هذا بالإضافة طبعاً إلى ضرورة التصدّي للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية وإيجاد الحلول التي لا تخذل الناخبين والثائرين على الظلم والقهر، وبالتالي تنمية الاقتصاد وإيجاد فرص عمل وضمان حياة لائقة وكريمة للناس وضمان حرية التفكير والمعتقد والتعبير للجميع. إذاً التحدي هو حماية الديمقراطية ومصالح الناس، وعلى هذا الأساس يمكن محاسبة القوى، التي وصلت إلى السلطة بفعل التغيير. أقول هذا الكلام، لأن كثيرين اليوم يبدون انزعاجاً من وصول الإسلاميين. وقد يكون لديهم حق في إدانة بعض التصرفات، في بعض المواقع والخشية من تصرفات أخرى. لكن لا يجوز التنكر للخيار الديمقراطي، الذي نطالب به جميعاً ونحن أمام واقع يجب احترامه. في هذا السياق تستحق التجربة المغربية التوقف عندها وأعتقد أنها لم تأخذ حقها. ربما طغت الأحداث في ليبيا، بعد تونس، وفي مصر، وفي سوريا التي تتقدم أحداثها على كل شيء، طغت على جدول أولويات الاهتمامات. لكنها تبقى تجربة رائدة. لماذا؟ أولاً: لأن الملك، الذي يسجّل له أنه اتخذ خطوات متقدمة منذ تسلمه الحكم بعد وفاة والده، وكان شجاعاً في نقد ممارسات كبار المسؤولين في عهد والده، وفي فتح صفحة الحقيقة والمصالحة، لطي آلام الماضي والتطلع إلى المستقبل، هذا الملك استدرك أيضاً ما يمكن أن يجري عنده بعد أحداث تونس ومصر ودخل في عملية إصلاحية دستورية، ودعا على أساسها إلى انتخابات جاءت بآخرين إلى السلطة. هذه حقيقة يجب أن تُقال، تلك كانت مبادرة كريمة وشجاعة ووطنية، لأنها جنبت البلاد المآسي والفوضى. ثانياً: لأن حصول الانتخابات شكل سابقة، فهي جرت على أساس دستوري جديد، وكانت نزيهة. اعترف بنتائجها الجميع وهذا هو المطلوب. وجاءت الأكثرية لمصلحة حزب العدالة والتنمية. ثالثاً: لأن هذا الحزب تصرّف بمسؤولية وأمانة وهدوء وأدرك حجم ما ينتظره من صعاب. لم يمارس الغرور والمكابرة والتشفي والانتقام. مدّ يده إلى الجميع. أكد على التعاون مع الملك. أصبحنا أمام فرصة جديدة في تاريخ المغاربة. أنها لحالة استثنائية بين القوى الإسلامية والملكية ورأسها لتتشكل تجربة فريدة حتى الآن. رابعاً: لأن رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، الذي يمثل "حزب العدالة والتنمية"، تميز بممارسته للسلطة، وهو الذي قال منذ أيام: "لا بد أن أكون واضحاً. دور الملك يظل قائماً في إطار المرجعية الدستورية ثم رئاسة الدولة. هو رئيس الدولة. من صلاحياته التي لا تتدخل فيها الحكومة هناك الجانب العسكري. الجانب الديني. إلى جانب الأمور الاستراتيجية وتمثيلية الدولة ويرأس المجلس الوزاري". إن في ذلك احتراماً للدستور وواقعية في الممارسة والتصرّف وتأكيداً على احترام المرجعيات وعلى الشراكة في الحكم. ولذلك أكد في مكان آخر:"نحن لم نأتِ رغماً عن الإرادة الملكية. هذا غير صحيح البتة. نحن جئنا لنحكم مع هذه الإرادة. نحن لن نبني علاقتنا مع جلالته على التنازع. هذا غير وارد وغير صحيح"! وهذه الروحية تعكس الحرص على الدولة وعلى الإنتاجية ورعاية مصالح الناس على قاعدة تكريس الاستقرار والتعاون في البلاد. خامساً: لأنه في هذا السياق أكد أيضاً "أن على الحكومة أن تتصرف بمنطق خدمة المواطن وليس التحكم فيه أو ضبطه. فإي دولة تتصور أنها ستستمر في الحكم من خلال التحكم في المال والسلطة وضبط الشارع بأساليب أمنية أو ببعض العطاءات التي يكون المقصود منها بالدرجة الأولى التسويق الإعلامي، فهذا أمر قاتل وقد انتهى. الدولة هي في خدمة المواطن. وأضاف: "يجب تفهم الأسباب الحقيقية الكامنة وراء التوترات الاجتماعية ومحاولة معالجتها. والمواطن يريد أن يشعر بالأمن على ممتلكاته وعلى نفسه قبل كل شيء"! في هذا الطرح نجد مسؤولية اجتماعية مهمة والتزاماً منطقياً وواقعاً أخلاقياً بقضايا الناس وبدور الدولة. وهذه نقطة مركزية مهمة. الدولة بمؤسساتها الفاعلة الموجودة لخدمة الناس ومصالحهم هي الملاذ والمرجع. وقياساً على ما يجري في مصر مثلاً فإن هذه المسألة مهمة جداً. إذ ليس ثمة فائدة في إبقاء نظام ما بمفاصله الأساسية وإسقاط الدولة، أو تغيير رأس نظام وإسقاط أو إلغاء الدولة. أو الدخول في مسار تحت عنوان إسقاط النظام والوصول إلى فوضى وإلى وضع لا ضوابط فيه ولا مؤسسات ولا دولة. الدولة هي الراعية للناس وشؤونهم، والتعاون بين قادة الدولة على أساس برنامج واحد هو الكفيل بتقرير الحياة الديمقراطية من جهة، وزيادة الفعالية والإنتاجية من جهة أخرى وتوفير المرجع والملاذ الآمن والضامن للناس وحقوقهم من جهة ثالثة. إن هذا النمط من التفكير الذي عبّر عنه رئيس الحكومة المغربية والنهج الذي يسير عليه، إذا ما تكرّس واقعاً في الممارسة يكون كفيلاً بنقل البلاد من حال إلى حال أفضل وعلى قواعد دستورية وضمن آليات واضحة. وهذه تجربة ستكون رائدة ونموذجية، حيث نظام ملكي تقليدي يعيش مثل هذه العملية الانتقالية، وهذا النمط من ممارسة السلطة والتعاون بين حكومة منتخبة ديمقراطياً عصبها الأساس معارضة هذا النظام تاريخياً، وتعاون بينه وبينها، وتلك تجربة ينبغي مراقبتها ومواكبتها مع تمني نجاحها لما فيه مصلحة المغاربة.