في الوقت الراهن تمر العديد من دول الغرب بما يمكن أن نطلق عليه عملية "بحث في أعماق الذات "لمحاولة استبطان الأسباب التي أدت لأفول نفوذها بالتوازي مع صعود نفوذ دول أخرى تقع خارج أوروبا وأميركا الشمالية، مثل الصين والهند وتركيا والبرازيل. ومع ذلك، فإن ثمة من العلامات ما يؤشر على أن كل دولة من تلك الدول (الصاعدة) تواجه تحدياتها الخاصة التي تنقسم داخلية تنبع من تركيبتها الذاتية، وتحديات تعود إلى المحيط الإقليمي والدول المجاورة. وسوف أخصص كل أسبوع من الأسابيع القادمة لمناقشة التحديات التي يواجهها كل بلد من تلك البلدان على حده. كانت القيادة الصينية قد كررت القول إن ظهورها على المسرح الدولي قد تم من خلال عملية "صعود سلمي" وأنه لا يوجد لديهم أي ادعاءات بشأن الدخول في منافسة مع الآخرين كي يصبحوا قوة عظمى، وأن كل ما يريدونه هو استرداد مكانة بلدهم السابقة كواحد من القوى العظمى على المسرح الدولي، وأن إنجازاتهم الحضارية التاريخية قد تشوشت بسبب المهانة التي تعرضوا لها على مدى 200 عام على أيدي قوى أجنبية مثل روسيا، وأوروبا، والولايات المتحدة، واليابان (على وجه الخصوص)، وأن ما تلى ذلك كان حرباً أهلية تبعتها قرابة ثلاثة وعشرين عاماً من مشاعر العداء المستحكم تجاه الغرب. وكانت الصين قد خرجت من عزلتها السياسية عقب الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأميركي نيكسون لبكين في فبراير 1972، لكنها لم تبدأ نهضتها الاقتصادية الاستثنائية إلا في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي عندما بدأت الإصلاحات الاقتصادية التي أنجزها الزعيم الصيني "دينج شياوبينج" تفعل فعلها. وتملك الصين في الوقت الحالي ثاني أكبر اقتصاد في العالم، كما تدعو معدلات نموها ومعدلات مراكمتها للعملات الصعبة للإعجاب. وعلى الرغم من ذلك فإن الصين تواجه في الوقت الراهن مشكلات غاية في الخطورة يمكن أن تلحق أضراراً بالقوة الصينية وتنال من مكانتها. ومن تلك المشكلات أن بنية سكانها البالغ عددهم 1.1 مليار نسمة، تتصف بأنها بنية آخذة في الشيخوخة من ناحية، ومنقسمة بشكل حاد ومرير من ناحية أخرى. فالهوة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء فيها، أعمق بكثير من مثيلتها لدى غيرها من القوى الكبرى، كما تعاني الصين من مشكلات أخرى منها الفساد المستشري، والأجواء الطبيعية المسممة (فعلياً لا مجازياً) بسبب معدلات التلوث المرتفعة، ونقص كميات المياه وما نجم عن ذلك من تقلص في كميات مياه الأنهار المتدفقة للجيران. وإلى ذلك فإن الصين تضطر من أجل المحافظة على معدلات نموها السريعة، إلى طرق أبواب كافة الأسواق العالمية بحثاً عن سلع ومواد أولية مثل النفط، والمعادن، والمواد الغذائية... وهو ما كان سبباً في ارتفاع أسعار تلك السلع وغيرها في السوق العالمي. وقد يشار هنا من باب تعداد المشكلات التي تواجه الصين، أنه نظراً إلى أن الثقافة الصينية، وهي ثقافة تقوم على احترام كبار السن، تفترض أن الأبناء هم من سيتولون مسؤولية ذويهم عندما يتقدمون في العمر، فإن ذلك يؤدي إلى قلة عدد شبكات الأمان الاجتماعي اللازمة لحماية هؤلاء وغيرهم من الآباء الضعفاء المحتاجين للرعاية إذا ما أخفق الأبناء في الاضطلاع بواجبهم تجاههم. لذلك تكتسب المقولة السائدة، وهي "أن الصين يجب أن تغتني قبل أن تشيخ"، معنى حقيقياً وقدراً كبيراً من الوجاهة والصواب. فليس في مقدور الصين الإقدام على اتخاذ الإجراءات الصارمة المطلوبة لتنظيم جوها الملوث خوفاً من أن تؤدي إلى تقلص خطير في الإنتاج وفي الوظائف المتوافرة. فالشيء الوحيد الأسوأ من التلوث البيئي القاتل هو المواجهات القاتلة التي ستحدث حتماً مع ملايين العاطلين من الشبان والشابات. ويشار في هذا السياق إلى أن الصين تنفق بالفعل على الأمن الداخلي أكثر مما تنفق على مؤسستها العسكرية الضخمة، وذلك ما يرجع إلى تزايد عدد الاضطرابات المدنية، بما في ذلك أحداث الشغب التي تقع في المناطق الحضرية والريفية على حد سواء، والتي يقدر عددها بنحو ثمانين ألف حادث سنوياً. والحزب الشيوعي يعرف أنه سيفقد السيطرة على البلد إذا لم يتمكن من الاستمرار في تحقيق النمو الاقتصادي والرخاء لمواطنيه، لاسيما فئاتهم الأكثر فقراً. وعلى الرغم من كثرة عدد الدول التي استفادت من إمكانيات الوصول للسوق الصيني، إلا أن هناك قلقاً متزايداً في قارتي أفريقيا وأميركا اللاتينية بشأن أن الصين تحقق أقصى قدر من المكاسب من العلاقات الاقتصادية التي تربطها بالدول التي تستثمر فيها، على نحو يفوق بكثير المنافع التي تجنيها مثل تلك الدول من تلك العلاقات. فالعديد من المشاريع الممولة صينياً تستعين بالعمالة الصينية لأداء معظم العمل، وهو ما يحرم العمالة المحلية من فرص العمل التي توفرها تلك المشاريع. وفي بعض الحالات، كما في حالة السودان على سبيل المثال لا الحصر، لجأت الصين إلى التغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان حتى لا تتأثر مصالحها الاقتصادية. وأصعب المشكلات التي تواجهها الصين في مجال السياسة الخارجية هي تلك الواقعة في فنائها الخلفي. فادعاءاتها القوية بامتلاكها حق السيادة على الموارد البحرية الواقعة في مياه وجزر بحر الصين الجنوبي، أثارت ردود أفعال مضادة من قبل معظم الدول المجاورة لها بدءاً باليابان وانتهاءً بإندونيسيا، وهي ردود أفعال اتسمت بالاستياء الشديد من جانب فيتنام والفلبين على وجه الخصوص. وباستثناء كوريا الشمالية، يمكن القول إن جميع بلدان جنوب وشرق آسيا متشوقة إلى أقصى درجة لاستمرار الولايات المتحدة في المحافظة على وجودها في تلك المنطقة للتخفيف من حدة محاولات الصين الرامية لبسط هيمنتها الإقليمية. بيد أن كل ذلك لا يحول دون القول إن صعود الصين على الساحة العالمية لا يزال حتى الآن يمثل ظاهرة جديرة بالإعجاب حقاً. أما السؤال المتعلق بمدى استمرارها في النجاح وفي الحفاظ على الطابع السلمي لتجربتها، فيبقى سؤال كبير يحتاج إلى إجابة خلال العقود القادمة.