الإمبراطوريات كالبشر الذين يقول عنهم الأديب الفرنسي الهزلي موليير "يموت أحدهم مرة واحدة لكن ذلك يستمر وقتاً طويلاً". والهزل الطويل لموت الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية يضحكنا كلما يلتقي أمام عدسات التلفزيون زعيما البلدين كاميرون وساركوزي. في لقاء القمة بباريس، الأسبوع الماضي، بمناسبة مرور عام على "ثورة" ليبيا، أهدى كاميرون لساركوزي قذيفة مدفع فارغة أطلقتها البارجة الحربية "لفربول" خلال عملياتها ضد القذافي. وإنه "عمل غريب أن تجعل الناس المحترمين يضحكون" حسب موليير. عبارات إطراء وإعجاب مضحكة تبادلها الزعيمان اللذان قال أحدهما للآخر قبل شهور قليلة "فاتتك فرصة طيبة لأن تخرّس". قال ذلك ساركوزي رداً على كاميرون الذي اعتبر جنوناً طلب ساركوزي فرض ضريبة على العمليات المالية، وعيّره الأخير بأن بريطانيا لا تملك صناعة غير المال. والواقع أن نسبة الصناعة في البلدين متساوية، ولا تزيد عن 11 في المئة من إجمالي المنتوج الوطني. وهذه علامة الموت الطويل لإمبراطوريات الغرب التي تحولت من الاشتغال بالإنتاج إلى الاشتغال بالفلوس. وتُعدُّ على الأصابع بلدان الغرب التي لا تزال تعمل في صناعة السلع الإنتاجية أكثر مما تعمل في صناعة الفلوس، وفي مقدمتها ألمانيا التي تُعتبر زعيمتها ميركل "الرجل الوحيد في أوروبا"! والألمان يقولون "الفرنسي يكتب ما لا ينطق به، وينطق بما لا يعنيه"، وإلاّ كيف يمكن تفسير قول ساركوزي لكاميرون بأنه يتطلع لحضور السباقات الأولمبية العالمية في لندن، وبلده فرنسا أصيب بالهستيريا عندما خسر استضافة الأولمبياد في المنافسة مع بريطانيا؟ وتعادل البلدان بالهستيريا عند إعلان مؤسسة التصنيف الدولية "ستاندرد أند بور"، الشهر الماضي، خفض مرتبة فرنسا الاقتراضية عن الدرجة العليا AAA، وأعقبها في الأسبوع الماضي خفض مؤسسة التصنيف "مودي" Moody مرتبة بريطانيا. وتعتبر جداول التصنيف التي تضعها أيضاً مؤسسة ثالثة هي "فيتش" Fitch كمعيار الذهب مقياساً لجاذبية الدول والأعمال للاستثمارات، وتستعين بها المصارف وصناديق الاستثمارات لمعرفة درجة المخاطر، وبالتالي نسبة الفوائد التي يجدر تقاضيها من المدين، وتبلغ المليارات في حال دول منحت بسببها ضمانات مالية لمواجهة الإفلاس، مثل البرتغال وإسبانيا وإيرلندا، وأخيراً اليونان. وأهم الأسئلة المطروحة الآن تدور حول ما إذا كانت الضمانة المالية التي أعلنت مجموعة اليورو هذا الأسبوع منحها لليونان، وقدرها 172 مليار دولار، ستضع نهاية للأزمة الاقتصادية؟ والجواب: "لا"، حسب المراقبين الاقتصاديين. فالتقرير الصادر عن "الهيئة الأوروبية" أكدّ ما كان يشك به الجميع، وهو أن الاقتصادات الأوروبية لا تنمو بل تتقلص. وإذا لم يكن هذا يعني بعد الاعتراف الرسمي بالركود الاقتصادي، فما عُمقُ الهبوط الاقتصادي؟ المشكلة أن هذه البلدان لم تشف قطُّ من الركود السابق، وهبط بعضها حتى مستوى "الكساد العظيم" في ثلاثينيات القرن الماضي. وليس أسوأ من مستوى الهبوط الاقتصادي الغربي سوى مستوى تفكير زعمائه الذين يجدون الحل في فرض التقشف على شعوبهم. أحداث العنف الجارية في شوارع أثينا هي الحلقة الأولى من مسلسل طويل سيتابعه العالم على شاشات التلفزيون، وليس في الغرب فقط. فالتقرير السنوي الصادر عن "منظمة العمل الدولية" أكد على ضرورة إيجاد 600 مليون فرصة عمل جديدة في العقد الحالي. وذكر أن 900 مليون عامل، معظمهم من البلدان النامية، يعيشون مع عوائلهم بأقل من دولارين يومياً، وهو الحد الأدنى للفقر، ونصفهم فقراء مدقعين يعيشون على دولار وربع في اليوم. ويطمس النقاش المعقد حول حسابات التصنيف وآثاره حقيقة أن الاقتصاد الغربي في وضع أسوأ مما كان عليه خلال "الكساد العظيم" في ثلاثينيات القرن الماضي. كشفت ذلك جداول إحصائية مقارنة لإجمالي المنتوج الوطني، أعدّها "المعهد الوطني للدراسات الاقتصادية والاجتماعية" في لندن، وظهر منها أن بريطانيا التي استعادت مواقعها بعد أربع سنوات على "الكساد العظيم"، لا تبدو اليوم أقرب إلى ذلك بأيّ حال. وليست بريطانيا وحدها، بل بلدان أوروبية كبيرة اقتصادياً، مثل إيطاليا وإسبانيا،فإن أداءهما أسوأ مما كان في الثلاثينيات. وأسباب الفشل بالدرجة الأولى السياسة الاقتصادية القائمة على مبدأ التقشف."أما تعلمنا الكثير عن الإدارة الاقتصادية خلال ثمانين سنة الماضية؟"، يتساءل بول كروغمان، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2008، وجوابه: "أجل، تعلمنا لكن النخبة السياسية في بريطانيا وبلدان أخرى قررت رمي المعرفة التي جرى جمعها بشقّ الأنفس من النافذة، واعتماد تفكير التمني الأيديولوجي بدلاً منها". و"الأحمق العارف أكثر حُمقاً من الأحمق الجاهل"، حسب موليير. وهذا حمق زعماء بريطانيا التي تُعتبر نموذجاً لما يفعله "التقشف المتوسع"، مع ذلك يتجهون نحو تقليص الإنفاق بدلاً من زيادة الإنفاق الحكومي لمحاربة الركود الاقتصادي. وكيف يزدهر الاقتصاد عندما تكون نسبة البطالة عالية، وسياسات الحكومة تشدد على خفض العمالة؟ "الثقة" هي العلاج، حسب تريخت، رئيس "المصرف الأوروبي المركزي" السابق الذي كان من أشد المؤمنين بالتقشف التوسعي. هذه الثقة "الأسطورية" لم تكن يوماً مقنعة، حسب كروغمان الذي يستفزه في هذه المأساة أنها غير ضرورية أبداً. فالاقتصاديون يعرفون قبل نصف قرن، وهذا ما يقرأه الآن طلبة الاقتصاد، أن التقشف في أوقات الركود فكرة سيئة جداً. لكن صانعي القرار السياسي والخبراء وكثيراً من الاقتصاديين قرروا لأسباب سياسية إلى حد كبير نسيان ما يعرفونه. ويعلن كروغمان عن أسفه لرؤية ملايين العمال يدفعون ثمن النسيان العنيد للاقتصاديين. في مسرحية موليير "الطبيب رغم أنفه"، يقول المريض: "يبدو لي أنك تحددها بشكل غير صحيح، فالقلب إلى اليسار والكبد إلى اليمين". يجيب الطبيب: "نعم، في الزمان القديم كان الأمر كذلك، ونحن نمارس الآن الطب بشكل جديد تماماً". هذا "الطب" الذي يمارسه زعماء الغرب على العرب والمسلمين أثار منذ القرن التاسع عشر سخرية الفيلسوف فردريك أنجلز الذي كان يستغرب كيف تشن دول الغرب حروباً صليبية ضد المسلمين بدلاً من المتاجرة معهم. واليوم بدلاً من المتاجرة النافعة للجميع ينفقون مليارات الدولارات لقتل وجرح وتشريد ملايين العراقيين والليبيين والسوريين والفلسطينيين والأفغان. و"الناس الخبثاء قد يموتون لكن الخبث لا يموت قطُّ" حسب موليير. وكالعراقيين، لن يدرك الليبيون والسوريون إلاّ بعد أعوام الخبث الذي يقتلهم، وعندما يدركون ذلك ستتحطم كالعراقيين قلوبهم أو تصبح كالصخر الجلمود.