عندما شاهدت "ميريل ستريب" الممثلة الشهيرة المرشحة لجائزة الأوسكار وهي تؤدي دور رئيسة الوزراء السابقة مارجريت تاتشر في فيلم" السيدة الحديدية"، أعجبت بها أيما إعجاب، حيث كان أداؤها للدور مقنعاً للغاية، لدرجة أنني في لحظة من لحظات الفيلم، اختلط عليّ الأمر، فلم أعد أميز بين الأصل والتقليد. ولا بد لي بداية من الاعتراف بأن لدي تحيزاتي الخاصة حيث سبق لي عندما كنت مراسلاً لشبكة "إيه. بي. سي" في لندن أن غطيت نشاط "تاتشر" أثناء حرب الفوكلاند، وغطيت فيما بعد وقائع مواجهاتها العديدة مع آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، وهو ميخائيل جورباتشوف، أو"جوربي" كما كان يطلق عليه. على أن الفيلم لم يتضمن مع ذلك أعظم إنجازات "تاتشر" على الإطلاق، وهو القيام بدور قائدة القاطرة الثقافية الأوروبية التي قامت بالتعاون مع قائد القاطرة الثقافية الأميركية على الجانب الآخر من الأطلسي، (لكن نصيب تاتشر كان أكبر) بممارسة الضغط على الاتحاد السوفييتي تحت قيادة"جورباتشوف" حتى انفجر من الداخل عام 1991. كانت "تاتشر" هي القوة العقلية (وكان ريجان هوالقوة العضلية التي نجحت في لي براثن الدب الروسي)، التي أدركت أن الحرب الباردة بين الكتلتين الغربية والشرقية، كانت حرباً تتعلق بالعدالة أكثر من تعلقها بالحرية، واستطاعت بحدسها الحاد إدراك عبقرية رجل الدولة الأميركي"إدلاي ستيفنسون" عندما قال في أحد خطبه إن "الشيوعية لا تعني شيئاً سوى إفساد حلم العدالة". وكانت المواجهات التي تمت بين تاتشر وجورباتشوف هي البداية الحقيقية لنهاية الحرب الباردة، على الرغم من أن تلك المسألة لم تقدر حق قدرها في ذلك الحين. والمواجهات بين ذينك القائدين، سواء تلك التي تمت وفقاً لنص مكتوب أو خارج النص، كانت ذات أبعاد ملحمية بحيث يستحيل تكثيفها في فيلم. وعلى الرغم من ذلك، فإننا نلحق أذى جسيماً بأول سيدة تتولى منصب رئيس وزراء بريطانيا عندما نحذف مثل تلك المواجهات. فما يمكن اعتباره أعظم أدوار "تاتشر" على الإطلاق لم يقدر لنا أن نشاهده علناً أبداً، كما لم تلتقطه كاميرات التلفاز، ولا تضمنته أفلام المخرجين السينمائيين فيما بعد. مازلت أذكر وقائع ذلك الأمر جيداً: كنت جالساً كعادتي في غرفة الأخبار لمكتب شبكة"إيه.بي.سي" في موسكو في وقت متأخر من ظهيرة يوم 30 مارس 1987، عندما أخبرني أحد الموظفين بأن السفارة البريطانية قد سلمت المكتب للتو نص الكلمة التي كانت "تاتشر" ستلقيها أثناء اجتماع رسمي في الكريملن في الليلة نفسها. وعندما قرأت نص الخطاب هالني ما قرأته ولم أصدق أن تاتشر ستقول مثل هذا الكلام حقاً. ولكن ذلك هو ما حدث بالفعل، حيث واجهت "تاتشر" أسود الكريملن في عرينهم، وقالت لهم في وجوههم إن الهراء الذي كانوا يقولونه عن الكفاح من أجل تحقيق انتصار الاشتراكية النهائي في جميع أنحاء العالم، قد شكل عائقاً أمام تحقيق السلام مع الغرب. ولم تكتف "تاتشر" بذلك، بل تحدت قادةالكريملن،وشككت في صدقهم بشأن قضايا التحكم في الأسلحة مستشهدة في ذلك بحقيقة أن موسكو تتفوق على الغرب بنسبة 9 إلى 1 في الصواريخ البالستية قصيرة المدى، كما وبخت "جورباتشوف" رئيس الاتحاد السوفييتي في ذلك الحين لممارسته النفاق في الدعوة إلى نزع الأسلحة في الآن ذاته الذي كانت فيه موسكو تكدس الصواريخ وتحقق تفوقاً كبيراً على الغرب في مخزونها من الأسلحة الكيماوية. بيد أن الشيء الذي جعل السوفييت يستشيطون غضباً في ذلك الوقت، هو تذكير "تاتشر" لهم بأنه في الوقت الذي كانت بريطانيا وحيدة في مواجهة هتلر خلال الأعوام 1939ـ 1942 كان الاتحاد السوفييتي يتودد للزعيم النازي، ويبيعه المواد الخام التي يحتاج إليها، ويعقد معه معاهدة عدم اعتداء. ومواجهة تاتشر للسوفييت بالحقائق الدامغة حطم أكبر أساطير دولتهم على الإطلاق، وهو ادعاؤها بأنهم الدولة التي تمتلك التفوق الأخلاقي على الآخرين، وتمتلك شرف بأنها كانت من أقوى من تصدى للقتال ضد ألمانيا النازية. لقد قالت "تاتشر" للسوفييت في ذلك اليوم ما كان من المستحيل على أي رئيس وزراء رجل أن يقوله لهم -دبلوماسياً. لقد أغضب ريجان السوفييت حقاً - ولكن ذلك كان"من بُعد" وليس وجهاً لوجه - عندما كان يتهكم عليه ويصف دولتهم ببـ"إمبراطورية الشر" في حين أن تاتشر كانت هي من سلقتهم بلسانها الحاد على العشاء. ومنذ تلك اللحظة التي فعلت فيها تاتشر ذلك ظل السوفييت يلتزمون وضعية الدفاع حتى انطفاء آخر شمعة على خشبة مسرحهم. عندما نفكر في تاتشر الآن، سنجد أنه ليس من الصعب علينا أن نفكر كيف كان سيصبح لدينا عالم أفضل، لو كان لدينا زعيمات يتمتعن بما تمتعت به "تاتشر" من ذكاء وصلابة وعدم خوف، وقدرة على مواجهة الآخرين ومصارحتهم بوجهة نظرها فيهم من دون تردد أو مواربة. فلنتخيل لو كان لدينا رئيسة وزراء أو رئيسة جمهورية أخرى مثل "تاتشر"، تنخرط في جلسات مصارحة ومواجهة بالحقائق دون مواربة مع خصوم مثل إيران وباكستان، بل ومع أصدقاء مثل إسرائيل. صحيح أن المخاطر اليوم لم تكن مماثلة تقريباً لما كانت عليه عندما واجهت تاتشر السوفييت وجهاً لوجه، ولكن مما لا شك فيه أن مواجهتها الصريحة القاطعة لهم، قد ساعدت على خلق عالم أقل خطورة بما لا يقاس. والتر رودجرز كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"