لا يحتاج المراقب إلى جهد كبير كي يلاحظ انتشار العنف بين "أفراد" المجتمع العربي. يكاد الأمر يجتاح كل الدول العربية. الفروقات فقط في حجم "شحنة" العنف، وهو يأخذ أشكالاً مختلفة بعضها لفظي وبعضها صراخ في وسائل الإعلام، لكن أكثره -وهو المؤسف- استسهال القتل، حيث صار أكثر انتشاراً. علاقات الناس ببعضهم لم تعد كما كانت. يشترك في هذا الشحن المواطن العادي والمثقف بكل فئاته وكذلك الرياضي الذي نسي أن الرياضة كانت يوماً "تُصلح ما تخربه السياسة"، فلم تعد تلك المقولة صالحة في هذا الزمن العربي. أحداث العنف هذه ذكرتني برسالة الزعيم الأفريقي نلسون مانديلا التي أرسلها إلى شعبَيْ تونس ومصر يطالبهما فيها بالتسامح مع رئيسيهما المخلوعين. إنه يعرف وقع التسامح في بث اللُّحمة الوطنية وتماسك المجتمع، وكان قد أبدى في رسالته تخوفه من أن تنتقل شحنة العنف بحالاتها المتعددة إلى حالة من العصبية والانتقام والتناحر بين شعب الدولة الواحدة. يدرك بخبرته الحياتية ما يمكن أن تؤدي إليه حالة الانتقام، حتى وإن كانت المجتمعات قد اشتهرت بالتآلف والتماسك. اليوم العنف انتقل ليكون عبارة عن حالة مستمرة... "ظاهرة" عربية، ما يثير تساؤلات حول أسبابها وطريقة ابتكار أساليبها. المسألة ليست كما يحب البعض أن يردده: العين بالعين. لأن النتيجة ستكون أن أفراد المجتمع سيصابون كلهم بالعمى. الحالة المصرية حالياً خير مثال على ما أقول، رغم ارتباط الذهنية العربية وباقي شعوب العالم بأن المصريين أكثر تلاحماً ببعضهم، وأن تسامحهم يكاد يفسح المجال لجميع شعوب العالم بأن تقبل العيش في مصر، فهناك الكثيرون من عرب وأجانب اختاروا مصر لتكون مقراً لإقامتهم، وبعضهم يابانيون مع أنهم يعتبرون أكثر شعوب العالم تحفظاً. وعلى المستوى الاجتماعي الشعب المصري يعتبر الأكثر انسجاماً بين أفراده والأكثر تناغماً. فالمجتمع المصري نسيج واحد تقريباً. وتاريخ مصر يؤكد لنا عدم وجود تناحر بين أبناء الديانتين الرئيسيتين فيها: الإسلام والمسيحية. الكل يتعايشون تحت مظلة الدولة المصرية، وهم مصريون في النهاية. ورغم ذلك فإن ما يحدث في مصر اليوم يعيد إلى ذاكرتنا ما حملته "رسالة مانديلا" العفوية. فالغضب يولد الحقد والرغبة في الانتقام. وما نراه من تعامل الشعب الواحد هو نتيجة لحالة التعبئة النفسية ضد الآخر. مانديلا، السياسي ، تجاوز تلك الحالة عندما حكم جنوب أفريقيا وتعامل مع "المنتصرين القدامى" من البيض الذين مارسوا كل أنواع التنكيل بشعبه. كما عمل مع المنتصرين القدامى بسرعة من أجل وضع دستور جديد يحفظ للجميع حقوقهم، وتفرغ هو ومن معه لبناء الدولة الجديدة من خلال خلق اللحمة الوطنية. وحافظ، هو ومن معه من البيض، على ممتلكات الوطن، باعتبار أنه يسع الجميع. بل الملفت أن يكون السبب في انطلاق تلك اللحمة مباراة لكرة القدم الأميركية "الرجبي"، التي هي اليوم مدخل للتشاحن بين العرب. وقت المجتمعات العربية غير مناسب للاختلافات. فهي بحاجة للعمل من أجل الخروج من "عنق الزجاجة" بمظلة وطنية. المجتمع العربي يحتاج إلى تطهير نفسه من ظواهر العنف للخروج من المناطق الرمادية التي يعيشها بأسرع وقت ممكن. والأسلوب الذي استخدمه مانديلا هو ما تحتاجه المجتمعات العربية من سياسييها. جنوب أفريقيا اليوم، بالتسامح الاجتماعي، أصبحت معجزة في ناتجها القومي، فهي تصنف اقتصادياً ضمن السبع الكبار في العالم.