ما يميز السياسة الخارجية لفرنسا هو الوجود الدائم لسياسة مزدوجة، إحداهما ترفض الاصطفاف مع واشنطن، في حين تشدد الأخرى على مركزية دور "الناتو" وتصدير الديمقراطية، التي من المقرر أن تجرى جولتها الثانية في السادس من مايو المقبل لا تشذ عن هذه القاعدة. البعض سيقدم لنا ساركوزي كملك على العالم تقريباً، وسياسياً يحظى باحترام نظرائه بالإجماع، وصاحب مبادرات كُللت بنجاح جماعي للمجتمع الدولي الذي أعاد إحياءه بفضل جهوده ونشاطه وحيويته، والتي بفضلها باتت فرنسا دولة كبيرة في العالم، ونصيرة مشهورة لحقوق الشعوب والأفراد. هذا في حين سيتهم البعض الآخر نيكولا ساركوزي بإهدار وإضاعة الإرث الديجولي- الميتراني (نسبة إلى رؤى وسياسات الرئيسين الفرنسيين شارل ديجول وفرانسوا ميتران)، وببيع صورة فرنسا وإشعاعها الدولي بثمن بخس، وبتقليص دورها وتحويلها إلى مصاف القوى الصغرى، غير أن أياً من هذين الموقفين لا يأخذ في عين الاعتبار الواقع. في لحظة انتخاب رئيس، ينبغي التمييز بين عدد من الأمور. وأولها ضرورة التمييز بين التطورات التي ليست لدينا عليها سيطرة، والتطورات التي يمكن ويجب اتخاذ قرار بشأنها. وعلى سبيل المثال، فإن الاضطراب الكبير في التوازنات الاستراتيجية التي نشهدها اليوم في ظل صعود عدد من القوى الجديدة، التي كانت حتى الأمس القريب لا تشارك مطلقاً أو تقريباً في القرارات التي تصوغ ملامح النظام الدولي، هو شيء ليس لفرنسا عليه سلطان. فصعود الصين والبرازيل وعشرات البلدان الأخرى لا يدخل ضمن نطاق ما تستطيع التأثير فيه. غير أنه بالمقابل نجد أن الموقف الذي تتبناه باريس تجاه هذا التطور الكبير وهذا التعديل الهيكلي لحالة العالم هو من مسؤوليتها. إعادة التوازن إلى ميزان القوى. فرئيس الجمهورية الفرنسية يمكنه، حسب القرارات التي يتخذها، الحفاظ على دور مهم لفرنسا على الساحة الدولية، أو الاكتفاء بدور بلد متجاوَز يصنف ضمن خانة القوى التاريخية القديمة. ولكن ربما ينبغي أولاً وقبل كل شيء الجواب على سؤال يفرض نفسه بقوة في هذا الباب: هل سيرغب الرئيس في التأثير على القرارات الدولية، أو الاكتفاء بدور بلد لا يسعى إلا إلى الحفاظ على نصيبه من الرخاء، بدون أن يُتعب نفسه بمشقة اللهاث وراء القوة؟ ما يميز السياسة الخارجية لفرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية هو الوجود الدائم لسياسة مزدوجة، إحداهما تفضل الاستقلال الوطني، ورفض الاصطفاف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، والتعاون مع دول الجنوب والبلدان الصاعدة، وبناء أدوات ووسائل التنظيم والتقنين العالمي، في حين تشدد الأخرى على أهمية ومركزية الدور الذي تضطلع به منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" ، والدور المهيمن للولايات المتحدة في العالم، ونزعة التدخل الخارجي، وتصدير الديمقراطية. ويمكن وصف الأولى بـ"الديجولية- الميترانية، في حين يمكن وصف الثانية بـ"الأطلسية" إبان الحرب الباردة، و"النزعة الغربية" اليوم. غير أن الخيار الديجولي- الميتراني أقل بعثاً على الارتياح لأنه يفرض إعادة حساب ميزان القوة بشكل دائم ومستمر، وقياس هوامش المناورة بشكل جد دقيق من أجل الحفاظ عليها، وبامتلاك سياسة ثابتة (استقلالنا، الذي لا يكون مضموناً بشكل أفضل إلا باستقلال الآخرين، يمثل استراتيجية أساسية) وتكتيكات تتوقف على الظروف. ولكن كيف لا يمكن رؤية أنه الخيار الوحيد من أجل الحفاظ على مصالحنا على المدى الطويل، في عالم تعدد فيه اللاعبون الدوليون وتنوعوا؟ الواقع أن تحجيم فرنسا في عالم تتكرس فيه التعددية القطبية أكثر من أي وقت مضى واختزالها في وضعها الوحيد كبلد غربي، يعني ضمنياً تدميرها ذاتياً. وفي هذا السياق، جعل ساركوزي من القطيعة، انطلاقاً من قناعة ربما، ولأسباب تكتيكية بدون شك، محورَ حملته الانتخابية في 2007، غير أن هذه الحجة لا يمكنها أن تفيده مرة أخرى في 2012. غير أن ساركوزي، الذي انتُخب رئيساً لفرنسا في مايو 2007، لم يتخلص من إرث الجمهورية الخامسة، وإنما عمل على المحافظة على محاوره الرئيسية – مع فارق بسيط ودقيق يتعلق بتشديده على تعريف فرنسا، أولاً وقبل كل شيء، بل بشكل حصري، كبلد غربي، وذلك باعتماد أسلوب خاص به يتميز بمحور تواصل قوي يفضي في بعض الأحيان إلى الرغبة في القيام بأشياء تروم إبهار الرأي العام والتأثير فيه، أحياناً بنجاح، وأحياناً على حساب وضع خطة على المدى الطويل، إضافة إلى خاصية أخرى تتمثل في ترك واجبات ومسؤوليات السياسة الداخلية - أو ما ينظر إليها على أنها كذلك - تطغى على الأهداف الدولية. وكل ذلك يؤدي في النهاية إلى النتيجة التي يعرفها الجميع، ألا وهي انقسام المجتمع الفرنسي والحد من جاذبية فرنسا الدولية.