توفي هذا الأسبوع وعلى نحو مفاجئ الصحفي المخضرم بصحيفة "نيويورك تايمز"، أنتوني شديد، وبموته نكون قد فقدنا أحد أمهر الصحفيين في الإعلام الأميركي المتخصص في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي في وقت نحن في حاجة إليه وإلى عمله ومراسلاته أكثر من أي وقت مضى. والحقيقة أننا لن نبالغ إذا أشرنا إلى الأهمية القصوى التي تنطوي عليها كتابات الراحل شديد سواء بالنسبة للعرب، والأميركيين، فقد كانت قدراته على نقل ما يجري في الشرق الأوسط فريدة من نوعها، وتعكس فهمه العميق لتاريخ العرب وثقافتهم، فضلاً عن انشغاله الصادق بهمومهم. وخلافاً للعديد من زملائه الصحفيين كان أنتوني شديد مدركاً لحقيقة أن القصة الصحفية تبدأ حتى قبل وصوله إلى المنطقة وتكليفه بتغطيتها، وهو لذلك كان يولي عناية خاصة للسياق العام للحدث، ويتجاوز دور الصحفي ليغوص في التاريخ بعين المؤرخ الساعي إلى ربط النقاط وفهم السياق. وكان واضحاً من خلال عمله أنه يفهم الواقع العربي المعاصر لأنه يعرف جذوره والخلفية التاريخية التي تسيجه، وربما لهذا السبب أيضاً كان يعرف في أي وجهة تمضي السياسة العربية في بلد من البلدان أكثر من المعلقين الذين يملؤون الشاشات بتحليلاتهم وثرثراتهم التي هي في كثير من الأحيان أوهام أو أحكام مجانية تجانب الصواب. وأكثر من ذلك كانت لأسلوب أنتوني شديد أيضاً لمسة شعرية واضحة لا تخطئها العين، ومن خلال كتابته كان دائماً يقدم أصوات الناس البسطاء ليحكوا قصصهم على أنانية الكاتب التي تطغى أحياناً على المقالة الصحفية. وفيما كان الصحفيون الآخرون يفضلون مرافقة القوات الأميركية طلباً للحماية والرواية الرسمية كان شديد يلجأ إلى حماية الناس الذين يرافقهم وينقل قصصهم، سواء كان الحدث في العراق أو لبنان أو سوريا. وبالنسبة له لم يكن العرب مجرد أدوات لا وجه لها أو أرقام تضج بها قوائم الوفيات والضحايا، بل كانوا أُناساً حقيقيين بمخاوفهم وآملاهم وقصصهم التي يتوقون إلى سردها. ولذا كان أقوى ما ينقله شديد إلى قرائه هو أصوات الناس وقصصهم التي يرويها من وجهة نظرهم ومن خلالهم، وعندما يقرأ المرء مراسلة لأنتوني شديد من بغداد أو بيروت أو طرابلس يحس وكأنه نقل إلى المكان الذي يقرأ عنه ليستحضر الأصوات وروائح الشوارع وكل التفاصيل الدقيقة التي يصفها مثيراً في نفسية القارئ كل تلك الانفعالات الصادقة والأحاسيس الغامضة التي تعج بها الأماكن البعيدة والمدن المضطربة في العالم العربي. وغالباً ما كان شديد يخاطر بنفسه لأداء بمهمته، فقد أطلق عليه النار وجرح من قبل الجيش الإسرائيلي في 2003 عندما كان يغطي العنف المستشري في الضفة الغربية، وتعرض لمشاكل في العراق عندما كان ينقل معاناة الأسر التي تأثرت جراء الحرب، كما تعرض للاختطاف والإساءة في ليبيا عندما كان ينقل للقارئ المراحل الأولى لانتفاضة الليبيين، وأخيراً فاجأه الموت بطريقة غريبة عندما استسلم لنوبة ربو قضت عليه. لقد كانت آخر مرة أكلم فيها شديد عندما أطلق سراحه في ليبيا لأطمئن عليه وأتأكد من سلامته، وبدلاً من التركيز على ما حصل له والإمعان في الشكوى كما يحصل في هذه الحالات، انتقل سريعاً إلى الموضوع التالي والتغطية المقبلة، إذ لم يكن لأمر أن يقف أمام حبه الشديد لمهنته التي تعامل معها كمهمة نبيلة أكثر منها كوظيفة رتيبة، ومع أنه فاز مرتين بجائزة "بوليتزر" الرفيعة تبقى إسهاماته في المساعدة على سبر أغوار منطقة غامضة بالنسبة لكثير من الغربيين أسمى من أن تكافأ بجائزة، فبدون عمله المتميز في منطقة صعبة كالشرق الأوسط ما كان لشعوبها أن تنقل أصواتها إلى صفحات كبريات الجرائد العالمية، وما كنا مثلاً لنعرف الحيرة التي استبدت بالعراقيين البسطاء وهم يكابدون عناء الاحتلال والفوضى من جهة وفرحة التخلص من الاستبداد من جهة أخرى. ودون مراسلاته الكاشفة ما كنا لنعرف أيضاً التأثير المدمر للقصف الإسرائيلي للبنان ولا تفاصيل الربيع العربي بكل ما يحمله من مشاعر متضاربة في مصر وسوريا. وفي عام 2007 قرر المعهد العربي الأميركي الاعتراف بإسهامات أنتوني شديد وتكريمه، وبعد تقديم مؤثر من نجم هوليود، توني شلهوب، اعتلى شديد المنصة ليكتشف الجميع رجلاً هادئاً ومتواضعاً إلى أبعد الحدود، وليتضح للناس أن عظمة هذا الرجل لا تكمن في صخبه، أو استعراضه للذات، بل في قدرته على خدمة الآخرين وتحويل نفسه إلى قناة لنقل قصص الناس وليس قصته هو، ولذا كان شديد رجل الآخرين سواء العرب، أو الأميركيين، وكان جسراً إلى العالم العربي الذي نؤثر فيه كثيراً لكن نعرفه قليلاً. واليوم وإذ أعبر عن حزني الدفين لفقدان هذا الرجل فإني حزين أكثر على أولئك الأشخاص في الشرق الأوسط الذين حكوا قصصهم على أمل أن ينقلها شديد للعالم. ولأنه كان رجل الآخرين بامتياز فقد كان عظيماً بمعنى الكلمة وهو لذلك كله يستحق منا الحزن والتأبين.