كان خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" الأخير في ذكرى استشهاد عماد مغنية والآخرين "وعداً بالحرب" على إسرائيل. فبعد كلام طويل استخف فيه بإسرائيل ووجودها وقوتها وقوة مَنْ وراءَها، قال إنه عندما كان مخيَّراً عام 2006 بين التفاوض والحرب فقد خاض الحرب، سائراً على سُنّة الإمام الحسين الذي اختار الاستشهاد على التنازُل والمفاوضات. وكانت حِدة التوتُّر قد تصاعدت بين إسرائيل و"حزب الله" في الأيام الأخيرة، استناداً إلى أنباء إسرائيلية عن محاولات اغتيال يقودها إيرانيون وأشخاص من "حزب الله" في بعض العواصم. ونَسَب الإسرائيليون ذلك لاقتراب ذكرى اغتيال "مغنية"، والذي يتّهم الحزب إسرائيل باغتياله في دمشق قبل سنوات. وعندما شاع بعد ظُهر يوم الخميس خبر اغتيال نائب مدير المخابرات ووزير الحرب الإسرائيليين، توقّع كثيرون أن يتعرض نصر الله لذلك في خطابه مساء الخميس. وقد نفى ذلك باستخفاف، ذاهباً إلى أنّ الحزب هو الذي سيقرّر المكان والزمان والظروف للثأر لمغنية من إسرائيل الغاربة! وهكذا يبدو أنّ إسرائيل و"حزب الله" إنما يهيء كلٌّ منهما رأْيَهُ العامَّ للحرب، والتي يختلفان في تحديد أهدافها بالطبع. فنصر الله كان في خطابٍ سابقٍ قبل أسبوعين قد قال إنه سيتخذ قراره بالمشاركة في الحرب على إسرائيل إذا هاجمت إيران بحسب الظروف والسياقات المتاحة، وها هو الآن يتوعدها بالحرب على طريقة الإمام الحسين إشارةً إلى أنه اتخذ قراره بذلك! لماذا الحرب إذن ومن يسبق الآخَر إليها؟ هناك سببان إيرانيان للحرب، وسببان إسرائيليان. ففي حالة إيران هناك حصار خانق يرمي إلى منْعها من إنتاج سلاحٍ نووي تقول هي إنها لن تنتجه وإن النووي عندها لأغراض علمية واقتصادية. وبسبب التضييق الشديد قامت إيران بإجراءين تهديديين لبيان قُدُراتها وإمكاناتها: هددت بإقفال مضيق هرمز، وقامت بمناورات ضخمة فيه وفي بحر العرب، وأثارت خلاياها الشيعية في المنطقة: من العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى القطيف والبحرين. ومتى ستقوم بذلك؟ تختلف الأقوال والتهديدات بين القيام بعمليات السدّ والإعاقة إذا مُنعَت من تصدير البترول، أو إذا هوجمت من جانب إسرائيل. وهي عندما أثارت الشيعة المسلَّحين وغير المسلَّحين إنما أرادت القول بأنّ لديها أَوراقاً بالمنطقة كُلِّها، وأنها تستطيع استخدامها ضد العرب والأميركيين، وإسرائيل بالطبع. وقد تلجأ إيران إلى الطلب من "حزب الله" القيام بهجومٍ استباقي يؤدي إلى نشوب حرب بالمنطقة، تحول دون نشوب حرب عليها بسبب النووي. أمّا السببُ الثاني لإمكان نشوب الحرب من جانب إيران و"حزب الله"، فهو إخراج النظام السوري من مأزق. وقد سبق للرئيس السوري أن أَبلغ بعض محاوريه أنّ النظام لن يذهب دون حربٍ على إسرائيل، باعتباره "صدعاً زلزالياً" سوف يدمِّر المنطقة كلّها إذا تعرض للأخطار! لكن ما العلاقةُ بين الحرب وإنقاذ النظام السوري؟! الواقع أنّ الحزب والنظام لا يمكنهما الانتصار على إسرائيل، وقد تستطيع إسرائيل تدميرهما أو إنزال أضرار شديدة بهما، لذلك ربما لا يكون من المرجَّح شنُّ حربٍ من أجل النظام السوري، وقصْر هذا التهديد على الحالة التي تكون فيها إيران هدفاً للهجوم. أما إسرائيل فلها سببان للحرب على "حزب الله": إنه هدفٌ أسهُلُ من إيران وأقرب، وهو يمهّد للهجوم على إيران إن صار ذلك ضرورياً، كما أنّ إسرائيل لا تُضطرُّ بذلك للبقاء على تحسُّبها للقتال على جبهتين إذا هاجمت إيران وهاجمها "حزب الله" بصواريخه. والسبب الآخر أنّ الضغوط تشتدُّ على إسرائيل من أجل إحياء عملية السلام، والتفاوض على الدولة الفلسطينية المستقلة. وهي لا ترى ذلك مُلائماً لها الآن في حين تمضي في سياساتها الاستيطانية. وهي تعرف أنّ إدارة أوباما مقيَّدة بالانتخابات الرئاسية القادمة. وبذلك تكون قد أجَّلت المفاوضات، وأزالت خصماً مزعجاً على الحدود. إسرائيل إذن تخبر رأيها العامّ وتخبر العالم أن بعثاتها وشخصياتها تتعرض لأعمالٍ إرهابيةٍ من جانب "حزب الله" وإيران، وهي لا تستطيع الصبر طويلاً على ذلك، ولابد من مهاجمة مصادر النيران وإسكاتها. لقد سرحت كلٌّ من إسرائيل وإيران (وحتى تركيا) ومرحت بالمنطقة العربية خلال الأعوام العشرة الماضية، في ظلّ عسكر الولايات المتحدة التي أشرفت على التقاسُم وشاركت فيه. وقد أَوقع ذلك أعباء هائلةً على الأميركيين، فغيَّر أوباما الاستراتيجية، بل إنّ التغيير بدأ في الفترة الثانية لبوش الابن. وتجلَّى ذلك التغيير في الانسحاب الأميركي من العراق، والتزام جانب الدبلوماسية، وإصلاح العلاقات مع العرب. ووجدت الدول الثلاث في الانسحاب الأميركي تحدياتٍ وفرصة. وانطبق ذلك بالدرجة الأولى على إيران التي رأت أنها تستطيع الحصول على قدْرٍ أكبر من الكعكة إذا غاب العسكر الأميركي عن الساحة. لكنْ حالت دون ذلك ثلاثة أمور: الانقسام الداخلي الإيراني الحادّ، وقيام الثورات العربية ووصولها إلى الحليف السوري، واشتداد الحصار على طهران من جانب الغربيين للحيلولة بينها وبين إنتاج النووي. لكنّ إيران حقّقت أموراً خلال الانسحاب الأميركي وبعده: استيلاء "حزب الله" على الحكومة في لبنان. وظهور نفوذها بالعراق. ويقال إنّ هناك قواتٍ إيرانية الآن من فيلق القدس بسوريا، وأنّ "حزب الله" يساعد في الداخل السوري بأساليب شتى. إنما المشكلة أنه مع غياب التأكُّد والاعتراف، يبقى كلّ شيء عُرضةً للتزعْزُع والزوال، ولذا يأتي التراوُح بين إظهار القوة والنفوذ، وإمكان التفاوُض والتسوية. والملفُّ السوريُّ ليس سهلاً على إيران ضياعه، لكنه ليس سهلاً أيضاً دعم النظام ضد شعبه والمشاركة في سفك دماء السوريين. ثم إنه ما عاد سهلاً الدعس على أَرجل العرب وبخاصةٍ في الخليج، لأنّ الخليج لا يريد ولا يتوجب عليه حماية أرضه وبحاره وأجوائه وحسْب؛ بل يريد أيضاً إنهاء الوضع في سوريا لصالح الشعب السوري. لذلك، فإذا كان الإيرانيون يعتبرون أنفسهم في حالة هجوم؛ فالخليجيون يَرَونَ أنّ من واجبهم وسط ظروف الثورات العربية، حماية الأمن العربي ومواجهة التحديات الإيرانية والإسرائيلية. يشتد الصراع إذن على سوريا الآن. فالإيرانيون يريدون الاستمرار في نظمها ضمن محورهم، والعربُ مصرُّون على استعادتها، و"حزب الله" يريد إنفاذ الرغبات الإيرانية بدعم النظام السوري، لكنه يخشى من التطورات القادمة، والتي تضع السنة في لبنان وسوريا والعراق في مواجهةٍ مع هذا المحور الذي يتدخل في شؤونهم ويهدّد بتقسيم بلدانهم. وقد يختار نصر الله الجهاد واحتمال الاستشهاد بدلاً من التفاوُض والتسوية والمصالحة. لكنّ المصالحة المطلوبة منه ليست مع إسرائيل كما يزعمُ، بل مع المسلمين الآخرين في لبنان وسوريا!