أعادت الثورة المصريّة، فيما أعادته، شيئاً من الاعتبار إلى الأزهر بوصفه صاحب صوت ورأي على درجة من الاستقلال. وهذه مسألة ليست قليلة الأهميّة، أكان فيما يخصّ المجتمع المدنيّ المصريّ وحركته وحرّيّاته، أو فيما يخصّ الثقافة الدينيّة وأحوالها واحتمالات تطوّرها. لكنْ لا بأس بداية بمراجعة سريعة للمحطات الأبرز في حياة الأزهر منذ احتكاك مصر، والعالم الإسلاميّ تاليّاً، بأوروبا وحداثتها. فالمعروف، بعد الحملة الفرنسيّة، أنّ انفتاح نابليون على الإسلام واهتمامه بمعرفته وبعلماء الدين، وتطميناته لهم، لم تغيّر النظرة الغالبة على الأزهر، ومفادها أنّ فوائد الفرنسيّين تقلّ عن مضارّ خضوع المسلمين لحاكم غير مسلم هو عاصٍ على الخليفة. وهذا ما عبّرت عنه سرديّة الجبرتي الذي كان هو نفسه شيخاً أزهريّاً: فهو ثمّن اهتمام الفرنسيّين بالعلوم والفنون والتجارب والحماسة للتعلّم، لكنّه لم يكفّ عن التنبيه إلى خطرهم على الدين والأخلاق السائدة، وإلى تسليحهم وتدريبهم جنوداً مسيحيّين، وإلى السلطات التي منحوها لجباة الضرائب الأقباط وما اعتبره إفساداً للنساء من خلال الاختلاط بالرجال والزيّ غير المحتشم. وفي النهاية قاد علماء الدين في الأزهر انتفاضة القاهرة على نابليون في 1798. على أنّ عالم رجال الدين المصريّين اتسع، في مطالع القرن التاسع عشر، لشيخ كرفاعة رافع الطهطاوي، الذي ذهب إلى باريس كمفتٍ لبعثة محمّد علي العسكريّة إلى فرنسا، وعاد معرّفاً بتقدّمها على نحو لا يخفي التأثر به. أمّا في النصف الثاني من القرن نفسه فنمت في البيئة الأزهريّة حلقة جمال الدين الأفغاني الذي وفد إلى القاهرة في 1871، والتي حاولت الجمع بين العقلانيّة والدين، كما دعت إلى وطنية إسلامية شديدة التطرّف، إن لم يكن الشوفينيّة، في عدائها للغرب. ولكنْ من هذه الحلقة خرج الشيخ محمّد عبده والزعيم الاستقلاليّ سعد زغلول الذي قاد ثورة 1919 وأسس حزب "الوفد". وكان عبده، الإصلاحيّ التوفيقيّ عموماً، قد عُيّن مفتيّاً للديار المصريّة، وحاول محاصرة نفوذ تقليديّي الأزهر، كما دفع باتجاه تحديثه، إن على صعيد المناهج الدراسيّة، أو على صعيد تحويله إلى مؤسّسة عصريّة. وكان لمحاولته هذه أن اتخذت طابعاً صداميّاً مع الخديوي عبّاس الحريص على إبقاء ذاك الصرح طيّعاً للسلطة المستبدّة، على ما كانته الحال منذ عهد المماليك. لقد عبّر عبده عن توتر العلاقة بين الإسلام والمعاصرة وعن طلب التوفيق بينهما، الأمر الذي استؤنف مع تلاميذه، وكان في عدادهم قاسم أمين الذي أرفق دعوته الحارّة إلى تحرير المرأة بدفاع حارّ عن الإسلام. ومن الأزهر، وفي مناخ التأثير الذي خلفه عبده، خرج كتاب علي عبدالرازق الشهير "الإسلام وأصول الحكم" الذي ظهر بعد عام على إلغاء أتاتورك الخلافة في 1924 وما أثاره الإلغاء من نقاش في مصر وسائر العالم الإسلاميّ. ولكنّ مواقف عبدالرازق من السياسة في الإسلام أدّت إلى محنته الشهيرة التي لم يكن الأزهر بعيداً عنها. وفي المقابل، كان رشيد رضا من تلاميذ عبده الذين ذهبوا في وجهة مغايرة، فاعتمدوا بعض أكثر التأويلات محافظة وتشبّثاً بالسلف الصالح وحيلولة دون التجديد. وفي هذه الغضون خاض الأزهر معركتين ضدّ الكاتب الشاب، ذي المنبت الأزهريّ أيضاً، طه حسين. وهكذا، ولدى عودته من باريس في 1915، صدر قرار بحرمانه من منحته الدراسية بسبب نقده طرق تدريس الأزهر وتحبيذه تدريس الجامعات الغربيّة، ما اضطرّ السلطان حسين كامل إلى التدخل وتعطيل القرار. ثمّ كانت المعركة الأكبر في 1926 مع صدور كتابه "في الشعر الجاهليّ" حيث قاضاه كبار الأزهريّين بحجّة الإساءة المتعمّدة للإسلام وكتابه. لكن إنشاء جماعة "الإخوان المسلمين" على يد حسن البنا في 1928 جاء حدثاً من خارج الأزهر بالكامل. وعلى رغم تأثر البنا برشيد رضا، فقد احتفظ الأزهر بحساسيّة رفيعة حيال "الإخوان" بوصفهم طارئين على العمل الديني من خارجه، وظلّ انتساب المشايخ للجماعة ضيّقاً جدّاً. وما تقوله الأسطر أعلاه مفاده أنّ ذاك الصرح الأهمّ في العالم الإسلاميّ كان عرضة لاحتمالات يصعب إدراجها في وجهة ملزمة واحدة. صحيح أنّ المحافظة، الخانقة أحياناً، ظلت هي الغالبة على توجّهه، بيد أنها امتلكت سيولة لم يكن من السهل توقعها أو مصادرتها مسبقاً. وهذا ما تغيّر مع الانقلاب الناصريّ في 23 يوليو 1952، إذ ما لبث العهد الجديد أن وضع يد الدولة على أوقاف الأزهر جاعلاً منه مؤسّسة حكوميّة بلا أيّة استقلالية. وإذا كان تقدميّاً من حيث المبدأ إلغاء المحاكم الشرعيّة الخاصّة بالأحوال الشخصيّة وإلحاقها بمحاكم وطنيّة عامّة، إلا أن القرار الذي اتخذه الانقلابيون لهذا الغرض في سبتمبر 1953 جاء خطوة أخرى على طريق مصادرة الدولة على المجتمع، ولاسيما أنها تمسك بسلطة تقوم بتعطيل القوانين والعبث بالدساتير. وقد كرّت السبحة فقرر في 1961، في موازاة "تعميق التوجّه الاشتراكي"، ربط تعيين شيخ الأزهر وباقي مسؤوليه وعمدائه بقرار يصدره رئيس الجمهورية. وعلى النحو هذا صار ذاك الصرح جزءاً لا يتجزّأ من أجهزة الدولة، يمتثل لقراراتها ويواكب سياساتها ويمحضها التبرير والفتوى. ولكنْ مؤخّراً، ومع إعلان "وثيقة الأزهر للحقوق والحرّيّات"، يبدو أنّ تلك المؤسّسة العريقة شرعت تستعيد دورها بحيث تقول قولها الخاصّ والمتقدّم فيما يتعلّق بـ"حرّيّة العقيدة" و"حرّيّة الرأي والتعبير" و"حرّيّة البحث العلميّ" و"حق الإبداع وحرية العمل الفنيّ". ومع أنّ الموقف السياسي الأخير للأزهر، في اصطفافه إلى جانب المجلس العسكريّ و"الإخوان" ضد الشبيبة التي أطلقت الثورة، ليس ممّا يُعتد به كثيراً، يبقى أنّ إحراز الاستقلاليّة واستعادة حرّية المبادرة الفكريّة خطوة كبرى إلى الأمام. ويزيد في أهميّة ذلك أنّ القوى الإسلامية التي وصلت إلى البرلمان المصريّ، وخصوصاً منها الفرع السلفيّ، ستقدّم إسلاماً يحضّ على استنطاق الإسلام الأزهريّ واستحضاره.