قد يبدو الكتاب الجديد الذي أصدره المفكر السياسي الفرنسي "لوران بوفيه" مؤخراً تحت عنوان "معنى الشعب... اليسار، الديمقراطية، الشعبوية"، كما لو كان نصيحة، أو حتي رسالة مفتوحة، لليسار الاشتراكي الفرنسي يدعوه فيها إلى تجديد العهد مع المقولات الشعبية، والقضايا العامة التي تمس اهتمامات وتطلعات الطبقة الشعبية العريضة، وهي طبقة هجرها الاشتراكيون عمليّاً، منذ وقت مديد، ولذا تبدو حاجتهم ماسة اليوم لاستعادة ثقتها في سنة انتخابات رئاسية فرنسية حاسمة. ومع أن هذه تكاد تكون هي الرسالة الحقيقية، أو الضمنية، للكتاب، إلا أن جهده الرئيسي المعلن منصب، مع ذلك، على ظاهرة صعود اليمين الشعبوي، في فرنسا وفي عموم القارة الأوروبية، وأيضاً على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، وخاصة بعد صعود حركة "حفل الشاي"، في بلاد "العم سام"، في سنة انتخابات رئاسية أميركية حاسمة أيضاً. وفي البداية يسعى الكاتب لتشريح ظاهرة استثمار اليمين المتطرف للمقولات الشعبوية الديماغوجية لحجز مواقع له ضمن تشكيلة مشهد سياسي يلفظه ديمقراطيّاً وينبذه أخلاقياً، وهنا يتساءل الكاتب: هل تفرض الظروف الراهنة في معظم المجتمعات الأوروبية، وخاصة في أجواء الكساد والأزمة الاقتصادية، الشعور حقاً بالخوف والتوجس من تمدد محتمل لأحزاب اليمين الشعبوي في القارة العجوز؟ وقبل الإجابة على ذلك يقلب صفحات من تاريخ فرنسا وأوروبا بحثاً عن الجذور الأولى لظهور هذه "المدرسة السياسية"، إن صح التعبير، مؤكداً أن معظم الأحزاب الأوروبية المصنفة ضمن هذه الخانة ترفض تقليديّاً أن توصف بالشعبوية، التي تعني في القاموس السياسي العادي دغدغة مشاعر الشعب بوعود ومقولات زائفة لتحقيق أهداف سياسية رخيصة. بل إن عبارة الشعبوية نفسها تعتبر عادة شتيمة سياسية في فرنسا خاصة، ولا يكاد يوجد أحد من جميع ألوان الطيف السياسي يقبل أن يوصم بها من الأساس. ومع ذلك فهي كظاهرة وكسلوك تحضر بقوة في المشهد السياسي، وخاصة في المواسم الانتخابية. ويؤكد "بوفيه" أن ظاهرة تنامي نفوذ أحزاب اليمين الأوروبية اليوم إن بدت متزامنة ومثيرة للقلق بكل المقاييس، إلا أن لكل دولة أوروبية مع ذلك أسبابها الخاصة المغذية للخطاب السياسي الشعبوي فيها، وإن كان الخيط الجامع لها كلها هو إخفاقات الاقتصاد، وثغرات وأخطاء البناء الوحدوي الأوروبي الذي ولد غير قليل من النقمة لدى بعض الشرائح الأوروبية ذات النزعات الوطنية أو الانعزالية، أو ذات المصالح المطلبية المتضررة من توسيع البيت الأوروبي. وهذه الفئات بالذات هي ما ركزت على استقطابه أحزاب اليمين المتطرف من خلال رفع سقف الخطابة الشعبوية إلى أبعد حد ممكن. وهنا ليس خلواً من المعنى أن البلدين اللذين رفض فيهما مشروع لشبونة -الدستور الأوروبي- سنة 2005، وهما فرنسا وهولندا، يعرفان صعوداً مقلقاً لليمين المتطرف ولثقافة كراهية الأجانب. وفي هذا المقام يستحضر "بوفيه" مقاربة المفكر الفرنسي- البلغاري الشهير "تودوروف" في تفسير الجوانب الثقافية والذهنية من أسباب رواج الخطاب الشعبوي وأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا الآن، ويرى أنه يتأسس على مواقف قديمة وصور نمطية وأشكال مختلفة من ثقافة الإخفاق في تقبل الآخر والتعايش معه وقبوله بآخريته واختلافه، وهي صور وأشكال مستبطنة منذ زمن بعيد ضد كل ما هو آخر، وخاصة ضد الثقافة العربية الإسلامية التي تحضر اليوم في القارة الأوروبية، ويستثمر اليمين المتطرف هذا الحضور للحشد والتعبئة، كلما افتقد أسباباً أخرى لنيل شعبية ومكاسب سياسية هي غاية ونهاية مشروعه السياسي. وأخيراً في الرسالة الضمنية للكتاب يدعو المؤلف ساسة اليسار الفرنسي، وبمعنى ما الديمقراطيين الأميركيين، إلى العمل من أجل نيل رضا عموم الشعب، والاستجابة لتطلعاته لأن ذلك ليس فقط ضرورة انتخابية وإنما هو أيضاً واجب أخلاقي سياسي، ولذا فإن تركيز الحزب الاشتراكي الفرنسي في كثير من أدبياته التقليدية على خطب ود ما يسميه "شعب اليسار" أي جمهور ناخبي الحزب، دون غيرهم، هو الذي ترك قطاعات واسعة من الناخبين فريسة لدعاية اليمين الشعبوي المتطرف، ممثل في حزب "الجبهة الوطنية" وحركات يمينية أخرى عديدة. ولذا فإن أفضل ورقة متاحة لليسار الاشتراكي اليوم هي الرهان على الشعب الفرنسي كل الشعب، والاستثمار في حجم الاستياء القائم من أداء اليمين الساركوزي الحاكم. ولابد طبعاً لليسار الفرنسي لتحقيق هذا الهدف من مشروع مقنع، والآن وهنا، وإلا فإن فرصه ستتبدد، لصالح اليمين التقليدي، أو اليمين المتطرف ومرشحته الصاعدة مارين لوبن. وذات الكلام يصدق أيضاً على فرص "الديمقراطيين" الأميركيين الذين يلزمهم احتواء التحدي الشعبوي الذي تمثله حركة "حفل الشاي" إن كانوا يريدون حقاً لمرشحهم أوباما البقاء في البيت الأبيض لولاية رئاسية ثانية. حسن ولد المختار --------- الكتاب: معنى الشعب... اليسار، الديمقراطية، الشعبوية المؤلف: لوران بوفيه الناشر: غاليمار تاريخ النشر: 2012