يقع السودان باسمه الحالي الذي أطلقه الجغرافيون والمؤرخون العرب خلال مرحلة انتشار وصعود الحضارة العربية الإسلامية، في الجزء الشمالي الشرقي من القارة الأفريقية، ما جعله دائرة تفاعل عربية أفريقية كبرى. وهو يتكون من خليط أجناس وثقافات تمظهرت عبر تاريخه الطويل في ممالك وسلطنات ومشيخات عدة، تفاعل كلٌ منها مع امتداداته المماثلة في غرب القارة وشمالها وجنوبها. من هذه الأرضية التاريخية الجغرافية ينطلق الدكتور سرحان غلام حسين العباسي في كتابه الذي نعرضه هنا، "التطورات السياسية في السودان المعاصر: 1953- 2009"، ليوثق لحقبة زمنية مهمة من تاريخ هذه البلاد، فيتناول "التطور السياسي والعسكري في السودان حتى عام 1964"، كما يستعرض أحوال "السودان من الثورة إلى الحكم المدني فالانقلاب العسكري"، وأخيراً يتطرق إلى تغيرات المشهد السياسي في "السودان من الانتفاضة إلى الانقلاب العسكري الثالث". وقبل ذلك يمهد لأقسام كتابه الثلاثة بدراسة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في السودان قبل الاستقلال، معرفاً بالعوامل المحركة للتطورات السياسية من خلال الاطلاع على سياسة بريطانيا في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وسعيها إلى إبقاء السودان مصدراً للمواد الأولية الرخيصة، وبخاصة القطن، وسوقاً لتصريف بضائعها، وربطها للقوى الاجتماعية المحركة بعجلة المصالح البريطانية، ومحاولتها إبقاء التخلف في مختلف مجالات الحياة، بغية تسهيل استمرار السيطرة الاستعمارية. بعدئذ يصل المؤلف إلى الموضوع الرئيسي لكتابه، فيلقي الضوء على التطورات السياسية حتى عام 1958، لاسيما النضال في سبيل الاستقلال، والإجراءات الدستورية التي اتخذتها سلطة الحكم الثنائي لنقل السيادة إلى السودانيين بموجب قانون الحكم الذاتي، وتأليف أول وزارة وطنية سودانية، وأول برلمان سوداني قام بإعلان الاستقلال، كما يتطرق للنظام السياسي الجديد في السودان بعد صدور الدستور عام 1956، والصراع الحزبي والمناورات السياسية التي أدت في النهاية إلى انهيار التجربة الديمقراطية الأولى في البلاد عام 1958. ويعود المؤلف لدراسة الحياة الحزبية في السودان من خلال استقصاء الجذور الأولى لأهم الأحزاب السودانية، وتكوينها الفكري وامتدادها الطائفي، ويقسمها إلى أحزاب تقليدية وأخرى طائفية. كما يهتم بدراسة التجربة الأولى للحكم العسكري في السودان خلال الفترة بين عامي 1958 و1964. وسعياً للتعمق في إيضاح دور المؤسسة العسكرية السودانية وعلاقتها بالأحداث السياسية، يبحث نشأتها وتطورها والانتماء السياسي والاجتماعي لأعضائها، ثم التطورات السياسية التي أدت إلى الانقلاب العسكري الأول عام 1958، وقرارات الانقلابيين ومواقف القوى السياسية منها. ثم يخصص المؤلف حيزاً كبيراً من كتابه لدراسة ثورة 1964 ويقول إن سوء الأحوال السياسية والاجتماعية أدى إلى سخط المواطن السوداني، بعد أن عمل الانقلابيون على تقويض التجربة الديمقراطية في السودان، ليعود الشعب مرة أخرى للنضال من أجل استعادة الديمقراطية والاستقلال. لكن التجربة الديمقراطية الثانية لم تعمر طويلاً، حيث جاء الانقلاب العسكري الثاني في السودان عام 1969، وما تبع ذلك من قرارات وسياسات فتحت الطريق لانتفاضة أخرى أطاحت بالنميري عام 1985. وفيما يتعلق بالسودان في ظل الانتفاضة، يتحدث المؤلف عن تلكؤ الحكومة الانتقالية للانتفاضة، وتهميش القوى الحديثة في الحكومة، ثم حكومات الصادق المهدي ومراحل تطورها وأبرز المشاكل التي واجهتها، وصولاً إلى مجيء الحكم العسكري الثالث للسودان عام 1989 وتشكيل حكومة الإنقاذ الوطني التي عطلت الدستور وحلت البرلمان المنتخب وحظرت الأحزاب. وخلال هذه المرحلة تفجرت أعوص المشكلات في تاريخ السودان المعاصر، من النزاع على مثلث حلايب، مروراً بتجدد نيران الصراع في الجنوب، وليس انتهاءً بمشكلة دارفور التي تحولت إلى تمرد مسلح ثم حرب أهلية محلية لم تجد طريقها نحو التسوية السلمية حتى الآن. وفي هذا الكتاب الذي يمثل دراسة استقصائية اعتمدت على قائمة غنية بالمصادر والمراجع والخرائط ومواد الأرشيف والمقابلات الشخصية... قام المؤلف بتوصيف المراحل المختلفة للحياة السياسية في السودان المعاصر، والتي تحددت أبرز عتباتها الفارقة بموجب انقلابات عسكرية أوجدها فشل سياسي مزمن، جاءت بدورها لتكرسه وتعمق آثاره. هذا بالطبع إلى جانب الحروب المحلية التي وجدت بيئتها المناسبة في ثنايا الجسم الرخو لدولة طالما كانت ضحية للمكايدات الداخلية والمؤمرات الخارجية. محمد ولد المنى -------- الكتاب: التطورات السياسية في السودان المعاصر: 1953 -2009 المؤلف: د. سرحان غلام حسين العباسي الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية تاريخ النشر: 2011