مع أن الأزمة المالية العالمية شملت كافة بلدان العالم تقريباً، إلا أن التعامل معها ومع انعكاساتها الخطيرة تفاوت بين بلدان وأخرى، مما خفف من حدة تداعيات هذه الأزمة على بعض البلدان وألقى بظلال كثيفة ومؤلمة على بلدان أخرى. ولنأخذ نموذجين من معقل الأزمة الأخيرة في منطقة "اليورو" ففي بداية الأزمة تشابهت كثيراً ظروف إيرلندا واليونان، فالدولتان كانتا تعانيان من أزمة عميقة وتتساويان إلى حد بعيد في عجز الموازنة المرتفع وفي حجم الدَّين الكبير للناتج المحلي الإجمالي. أما الوضع الحالي لكل من إيرلندا واليونان فهو مختلف تماماً، فإيرلندا حققت تقدماً ملحوظاً على طريق معالجة تداعيات الأزمة للخروج منها بأقل التكاليف، في الوقت الذي لا زالت فيه أثينا تتخبط في مشاكلها المتفاقمة، وهي معرضة للإفلاس والخروج من منطقة الوحدة النقدية الأوروبية، وذلك على رغم تلقيها دعماً ماليّاً ضخماً يفوق كثيراً ما تلقته إيرلندا. وبالتأكيد، فإن لهذا التفاوت أسباباً عديدة وتجربة يمكن أن تكون مفيدة للكثير من الشعوب والبلدان التي يمكن أن تتعرض لأزمات اقتصادية واجتماعية في أي وقت، حيث تكمن هذه الأسباب في ثلاثة عوامل رئيسية: ولنبدأ بالعاملين والنقابات العمالية والمهنية، ففي إيرلندا تنازل العمال عن بعض مطالبهم مؤقتاً للمساعدة في انتشال بلدهم من الأزمة وعملوا بصورة جادة لزيادة الإنتاجية والتخفيف من حدة البطالة، مما ساهم في عودة تدريجية للأنشطة الاقتصادية وتوفير المزيد من الوظائف. أما في اليونان، فإن العاملين ونقاباتهم لم يكفوا، على مدى أكثر من عام ونصف العام، عن التظاهر وترك أماكن العمل، مما أدى إلى تدني الإنتاجية وتدهور الأوضاع الاقتصادية وتعميق الأزمة، بل إن المساعدات الهائلة التي قدمت من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي تبخرت دون أن يكون لها مردود على تحسين الأوضاع المالية هناك. وعلى مستوى قطاع الأعمال، فإن الشركات والمؤسسات المالية ورجال الأعمال في إيرلندا التزموا التزاماً كاملاً بدفع الضرائب وتسديد التزاماتهم تجاه الدولة لدعم قدراتها المالية، في الوقت الذي يتهرب فيه معظم الشركات ورجال الأعمال في اليونان من دفع الضرائب، حيث تراكمت المبالغ الناجمة عن ذلك لتفوق 14 مليار "يورو" وهو مبلغ كبير يمكن أن يساعد في حل العديد من القضايا ذات العلاقة بالأزمة العميقة التي تواجهها أثينا. وأخيراً، فإن عمل الحكومة الإيرلندية يتميز بالشفافية والمحاسبة والمراقبة البرلمانية الصارمة، مما ساعد على الحفاظ على موارد الدولة وتوجيهها لخدمة التنمية ومعالجة تداعيات الأزمة، وذلك على العكس من اليونان التي تعاقبت عليها إدارات فاسدة، مما أدى إلى انتشار الفساد بكافة أشكاله، بما فيه التهرب الضريبي وسوء تنفيذ المشاريع العامة والحصول على عمولات واتخاذ إجراءات غير قانونية، مما ساهم في التقليل من جذب الاستثمارات الأجنبية وتفويت فرص تنموية مهمة. ولكن ما الذي يجعل هذا التفاوت قائماً بين البلدين بهذه الصورة الصارخة، في الوقت الذي ينتمي فيه البلدان إلى نفس المجموعة الأوروبية الراقية والشفافة والمتقدمة؟ سؤال مهم لابد من دراسته للاستفادة من الخلاصات التي يمكن الخروج بها. فمن جهة يقف العالم أمام بلد متحضر مثل إيرلندا ومتعاون بين كافة مكونات المجتمع الرئيسية، ومن الجهة الأخرى هناك بلد مثل اليونان يشبه إلى حد بعيد ضحية تتعرض للذبح وتقاسم الرمق الأخير مما تبقى من خيرات ومساعدات من قبل كافة مكونات المجتمع. هل تكمن المشكلة في العقلية اليونانية الأقرب لمحيطها الشرقي الذي يعتبر نقيضاً للعقلية الإيرلندية الغربية؟ هذان نموذجان للتعامل ليس مع تداعيات الأزمة المالية فحسب، وإنما أيضاً لمعالجة الكثير من القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حيث يمكن لمختلف بلدان العالم، بما فيها العربية الاستفادة منها للتخفيف من التناقضات الاجتماعية والمساعدة في وضع بلدانها على طريق التقدم والنجاح الاقتصادي والتقني.