تجولت في الثالث من فبراير الجاري في الحي الذي أسكنه في وسط مدينة القاهرة لأرى ما هي آخر التطورات في معارك الشوارع. بدأت تلك المعارك مرة أخرى (للمرة الثالثة خلال ثلاثة أشهر) في أعقاب أعمال الشغب يوم 1 فبراير في استاد مدينة بور سعيد الرياضي، حيث قتل 74 شخصاً. يبدو أن عشاق كرة القدم اجتاحوا الملعب وبدأوا بالشجار بعد مباراة لكرة القدم. لم تكن تلك المرة الأولى التي يُتهم فيها المجلس الأعلى للقوات المسلّحة الحاكم إما بإثارة العنف أو الفشل في إيقافه. إلا أن العناوين كانت تصرخ "مجزرة" حتى قبل أن يتم دفن الضحايا. وبحلول مساء يوم 2 فبراير، تحولت الاحتجاجات إلى معارك شوارع مع قوات الأمن قرب وزارة الداخلية بمحاذاة ميدان التحرير. كانت الأحياء بين شقتي والوزارة هادئة، ولم يكن هناك أية سيارات في الشوارع. مررت بعدد من جامعي الخردة يدفعون عرباتهم وينادون "بيكيا، بيكيا"، وهي ترجمة حرفية لكلمة "فيكيا" الإيطالية، تعني "أشياء قديمة". نشأت الكلمة في وقت كانت القاهرة فيه أكثر "عالمية" وكان بإمكان الناس إلقاء الأشياء القديمة التي لم يعد بالإمكان إصلاحها. أما في هذه الأيام، فإن رجال "بيكيا" متواجدون في كل مكان، ولكنهم يعدون محظوظين إذا عثروا على ثلاجة قديمة أو جهاز تلفزيون يستطيعون بيعه كخردة. ومنذ الذكرى الأولى للإطاحة بمبارك، أصبحت الاحتجاجات التي تنادي بإنهاء الحكم العسكري أكثر إلحاحاً. أعادت الانتخابات البرلمانية منذ ذلك الوقت مجلس شعب تسيطر عليه القوى الدينية، وأثبت حتى الآن أنه غير فاعل في مواجهة الأزمة. وأدرك الناس أن الحفرة التي حفروها لأنفسهم أعمق مما كانوا يتصورون، وأن المستقبل الذي بدا واعداً السنة الماضية لم يتحقق بعد. المعركة الحقيقية ليست في شوارع القاهرة وإنما في داخل المصريين، الذين نسوا نقاط قوتهم الحقيقية، وتعاطفهم المتبادل في ميدان التحرير السنة الماضية وتقاليد اللاعنف التي سمحت لمجتمعهم بالبقاء. كذلك لم يكن التقييم الذاتي هاماً على الأجندة العامة، بين الاحتجاجات والصدامات والانتخابات التي فُرِضت بسرعة، ناهيك عن الحاجة لوضع طعام على المائدة. إلا أن التحول الحاصل في النفسية المصرية منذ عملية القتل الداخلي الرمزية يحتاج إلى تقييم عميق. طالما كانت القيادة السلطوية في مصر مستبدة، ولكن الشعب اعتمد عليها رغم ذلك، وتنازل عن المسؤولية المدنية لصالح الدولة ، مما تمخض عن نتائج مثل تلك التي يواجهونها اليوم. قضية المسؤولية تقع في قلب الموضوع: أين تنتهي الدولة وأين يبدأ الشعب؟ هذه ثورة بنفس الدرجة التي تتم فيها مساءلة الأدوار اليوم. يحاول المصريون اليوم التخلص من نفس الآليات التي طالما اعتمدوا عليها للبقاء. ولكن يتوجب عليهم اليوم، تدفعهم عناوين الأخبار والحاجة المادية والغضب الذي طالما تم كبحه البحث في داخلهم عن بدائل أكثر إلهاماً. يرغب الكثيرون في أن تجري الانتخابات الرئاسية فوراً. ويبدو المصريون، دون وقفة تأمل، وقد فرض عليهم القدر أن يكرروا أنفسهم، ويوجهوا طاقاتهم نحو إسقاط حاكم ظالم تلو الآخر، ليس لإنهاء الاستبداد بصورة نهائية، وإنما ليجدوا استبداداً يستطيعون العيش معه. شاهدت وأنا أسير عائدة إلى شقتي رجلاً آخر من رجال "البيكيا". كانت عربته فارغة. أتمنى لو استطعت ملؤها بمفاهيم مكسّرة مثل العنف كحل لأي شيء، والحملات الإعلامية الرخيصة التي تبيع هذه المفاهيم، كالسياسة الأبوية والدين والعجز البائس والحقد الذي قاموا بتوليده، كل شيء يقف بيننا وبين إمكانياتنا، كل ما هو قديم وغير نافع ويستحق تحويله إلى خردة. ماريا جوليا كاتبة أميركية مقيمة في القاهرة ينشر بترتيب مع خدمة "كومون جراوند" الإخبارية