"لست صارماً ولا متهاوناً، لكني حاسم عندما أحاول تصحيح الأمور الخاطئة"، ذلك ما قاله "ساولي نينستو" مخاطباً بعض أنصاره الذين احتشدوا في هلسنكي للاحتفال بفوزه، حيث توجه أيضاً بالشكر للذين لم ينتخبوه قائلاً إنه سيكون رئيساً لكل فنلندا. وقد أعلنت يوم الاثنين الماضي النتائج الرسمية والنهائية لدور الإعادة في انتخابات الرئاسة الفنلندية، حيث حصل نينستو على نسبة 62 في المئة من الأصوات، مقابل 37 في المئة لمنافسه "بيكا هافيستو" الذي أقر بهزيمته وهنأ غريمه الفائز. وبفوزه يصبح نينستو أول رئيس للبلاد من حزب "الاتحاد الوطني" منذ "كوستي باسكيفي" الذي غادر منصبه عام 1956. أما نينستو نفسه فهو محام ونائب برلماني ووزير سابق، ومن المقرر أن يتسلم مهام منصبه الجديد كرئيس لفنلندا في الأول من مارس المقبل. وقد ولد ساولي نينستو عام 1942 في مدينة "سالو" بالإقليم الجنوبي الغربي من فنلندا، حيث بدأ حياته العملية بتأسس مكتب محاماة ناجح، قبل أن ينخرط في العمل السياسي ويصبح عضواً في المجلس المحلي للمدينة عام 1977، وقبل انتخابه لعضوية البرلمان الفنلندي عام 1987 عن دائرة "فنلندا الجنوب". وفي عام 1994 اختير لقيادة حزب "الاتحاد الوطني" المعارض. وبعد الانتخابات التشريعية لعام 1995، والتي أفرزت "حكومة ألوان قوس قزح" بين الاشتراكيين والديمقراطيين والشيوعيين والبيئيين، أصبح نينستو وزيراً للعدل في حكومة الاشتراكي "بافو ليبوتين". وبموجب تعديل وزاري أجراه "ليبوتين" في العام التالي، أصبح نينستو وزيراً للمالية، وهو المنصب الذي ظل فيه حتى عام 2003، حيث عرف بانتهاجه سياسة مالية صارمة أثارت إعجاب الرأي العام الفنلندي، مما جعل "الاتحاد الوطني" يحثه على الترشح لانتخابات الرئاسة عام 2000، لكنه رفض متعللاً بظروف شخصية. وبعد تنحيه عن رئاسة الحزب عام 2001، قلّ النشاط السياسي لنينستو، واستمر في ما يشبه عزلته السياسية غير المعلنة بعد وترؤسه مجلس إدارة "بنك الاستثمار الأوروبي". لكن في عودة قوية للمسرح السياسي، أعلن نينستو في مارس 2005 ترشحه لانتخابات الرئاسة الفنلندية ممثلاً لحزبه وفي مواجهة الرئيسة المنتهية ولايتها "تارجا هالونين"، إلا أنه خسر السباق في الشوط الثاني بنسبة 48 في المئة مقابل 52 في المئة لمنافسته. ثم أعلن نيته الترشح للانتخابات البرلمانية عام 2007، نافياً أي سعي من جانبه لمنصب رئيس الوزراء، فحصل على 60500 صوت، وهو حجم أصوات قياسي لمرشح واحد في الانتخابات النيابية الفنلندية، فنافس على رئاسة البرلمان وكانت من نصيبه في نهاية المطاف. وقد عرف عنه خلال ترؤسه البرلمان دعمه للإصلاحات المالية الرامية إلى سد العجز في موازنات البلاد ولضمان احتفاظها بمستوى تصنيف ائتماني جيد. ولم يشأ نينستو الترشح لتجديد مقعده البرلماني في انتخابات إبريل 2011، حيث كان يكرس جهده استعداداً لخوض انتخابات الرئاسة في يناير 2012، فخاضها للمرة الثانية كمرشح لحزبه، وحصل في شوطها الأول على 37 في المئة من الأصوات، متقدماً على كل المرشحين ومتجاوزاً مع المرشح الثاني، وهو زعيم حزب الخضر "بيكا هافيستو"، نحو شوط الإعادة، حيث حصل على الأغلبية المطلقة في 14 مقاطعة من أصل المقاطعات الـ15 في البلاد، بما مجموعه 62 في المئة من إجمالي أصوات الناخبين. وبتلك النتيجة يصبح نينستو الرئيس الثاني عشر لجمهورية فنلندا منذ إعلانها الاستقلال عن روسيا عام 1917، التاريخ الذي عرفت بعده البلاد الواقعة في المنطقة الفينوسكاندية بشمال أوروبا حروباً أهلية، ودخلت في حروب ضد الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية، كما مرت بفترة من الحياد خلال الحرب الباردة، مما منحها عزلة وأبقى على الطابع الزراعي لاقتصادها حتى خمسينيات القرن الماضي، وجعلها تتأخر في الولوج إلى عصر التصنيع. لكن يعتقد الفنلنديون أن سياسة الحياد هي ما جعل بلادهم تحقق تطوراً اقتصادياً سريعاً وتصبح دولة رفاه اجتماعي واسع ومتوازن، حيث باتت تتصدر المقارنات الدولية في "الأداء الوطني"، لاسيما من حيث الصحة والدينامية الاقتصادية والتعليم والبيئة السياسية ونوعية الحياة. بيد أن الرئيس الفنلندي الجديد ليس من أنصار سياسة الحياد، بل من الداعين إلى عضوية فنلندا في "الناتو"، وقد أعلن خلال الحملة الانتخابية نيته تنظيم استفتاء بهذا الشأن. وعقب فوزه تصاعدت أصوات محذرة من احتمال حدوث تغييرات قادمة في السياسة الخارجية الفنلندية، لاسيما أن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء (جيركي كاتالنين) ينتميان إلى الحزب ذاته وهو "الاتحاد الوطني"، فيما يعد توافقاً نادر الحدوث في التاريخ الفنلندي، ولعله ما جعل نينستو يتعهد في حملته الانتخابية بإبقاء فنلندا بعيدة عن الأزمة المالية التي تمر بها منطقة اليورو (وهي عضو فيها) مع دمجها أكثر فأكثر في الاتحاد الأوروبي، وبإنشاء فرق عمل خاصة لمكافحة الاغتراب في أوساط الشباب، وإيجاد حلول لمشكلات المناطق الريفية ذات الكفاءة السكانية المنخفضة... هذا رغم أنه بموجب الدستور الفنلندي لا يتمتع الرئيس إلا بنفوذ محدود في الشؤون الداخلية، وإن كان يساهم في تحديد السياسة الخارجية والأمنية مع رئيس الحكومة. وقد حظيت الحياة الشخصية لنينستو باهتمام الصحافة الفنلندية منذ وفاة زوجته "مارجا لينا" في حادث سير عام 1995، والتي كان قد تزوجها عام 1974 وأنجب منها طفلين. ثم تزوج في عام 2009 بزوجته الثانية، وهي المحررة الصحفية "جيني هوكيو" ذات التسعة وعشرين عاماً في حينه. وقبلها كان على علاقة بالنائبة البرلمانية وملكة الجمال السابقة ووزيرة الثقافة لاحقاً "تانجا كاريلا"، وكانت حينها في المعارضة بينما كان نينستو الرجل الثاني في الحكومة. وبعد أن كانا على وشك إعلان خطوبتهما في عام 2003، انفصلا في العام التالي. كما يتذكر الفنلنديون نينستو باعتباره أحد الناجين من زلزال المحيط الهندي عام 2004، حيث أفلت من أمواج التسونامي بتسلق عمود إنارة مع ابنه "ماتياس" في منطقة "خاو لاك" بتايلاند. لكن قبل ذلك وبعده سيتذكرونه باعتباره الرئيس الذي سيشارك رئيس وزرائهم في بعض مهامه، وسط ظرف اقتصادي مضطرب يكاد يعصف بأوروبا كلها. محمد ولد المنى