بعد ربيع الغضب لابد أن يأتي خريف يُكتب فيه كل ما حدث. ومع أن المقالات التحليلية تضعف عادة من عفوية وحيوية الأحداث الساخنة، فإن كاتبو التحقيقات الصحفية البحتة أيضاً لا يستطيعون النأي عن فخ الظهور بمظهر من يقوم بتلخيص وإعادة سرد تلك الأحداث مرة أخرى. والكتاب الذي نعرضه هنا، وهو "احتلوا! مشاهد من أميركا المحتلة"، الذي قام على تأليفه مجموعة من المفكرين والباحثين والفلاسفة والصحفيين، الذين ساهم كل واحد منهم بمقالة تحليلية عن جانب معين من جوانب حركة الاحتجاجات، كما شاهدها هو بنفسه، ثم جُمّعت تلك المقالات التحليلية في النهاية، وخضعت للتحرير من قبل صحفي محترف. والعملية كلها تمت بتكليف من مجلة N+1 الفصلية النيويوركية المعروفة. والحقيقة أن هذه المقالات التحليلية الرصينة، نجحت في تجسير الفجوة بين التحليل والوصف، والتي عادة ما تعانيها التغطية الخبرية المباشرة. ونصف عدد المقالات يتخذ شكل اليوميات التي تسجل تجربة كل كاتب مع المحتجين وكل ما يتعلق بحركة "احتلوا وول ستريت" التي اتخذت مقراً لها متنزه "زاكوتي" في نيويورك فجعلته القلب النابض للحركة. وكان قطاع كبير من الأميركيين قد وصل إلى قناعة بأن واشنطن فقدت الزخم السياسي الحقيقي، وأن مؤسسات الحكم بمختلف أنواعها قد خذلتهم، ليس لأنها أخفقت في الحيلولة دون وقوع أكبر أزمة مالية تضرب البلاد منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، وإنما لأنها أخفقت قبل ذلك في تقديم حلول ملائمة للعديد من المشكلات التي يعانون منها، وخصوصاً طبقاتهم الأقل دخلاً والأكثر انكشافاً. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد حيث شهدت الولايات المتحدة، مظاهر متزايدة لعدم المساواة، ما أفقد النظام السياسي مصداقيته، وجعل الناس يفقدون ما لديهم من أمل وصبر، ويقررون في لحظة معينة أن الوقت حان لأخذ زمام الأمور بأيديهم، وكانت تلك اللحظة هي لحظة "احتلوا وول ستريت". وقد تعرضت الحركة لانتقادات، منها عدم وجود أهداف محددة. لكن من كانوا يوجهون تلك الانتقادات يتناسون أن المهم في تلك الحركات ليس المطالب في حد ذاتها، بل الرسالة المراد توصيلها. وفي حركة "احتلوا وول ستريت" كانت الرسالة واضحة، وهي ضرورة العمل على التخلص من الصراعات الحزبية التي باتت تعوق مصالح البلاد، وإزالة الفوارق غير المبررة بين الطبقات، بالإضافة لتجاوز الهوة بين الأجيال. ويقدم المشاركون في الكتاب، عرضاً دقيقاً وموثقاً منقولاً عن أفواه المشاركين في الحركة، حول الكيفية التي كان يتم بها تنظيم الحياة اليومية في معسكر "زاكوتي بارك"، والتحديات التي كان يواجهها المحتجون في تدبير احتياجاتهم، وهم يتواجدون في مساحة لا تزيد عن نصف فدان. ويقدم المؤلفون خريطة جغرافية واجتماعية للمشاركين في تلك الاحتجاجات، ويركزون على النقطة التي انقسمت بها حدود المتنزه. فأصبح جانبه الشرقي "محتلاً" بطائفة من المحتجين تدل المناقشات الدائرة بينهم على انفتاح أفق عقائدي، بينما كان جانبه الغربي عبارة عن "جيتو" يضم المجموعات الاحتجاجية الأكثر راديكالية، والتي لا تؤمن بالإصلاح بل بأن الثورة فقط هي طريق الخلاص. والملفت أن مؤلفي الكتاب قد دونوا العديد من الملاحظات التي تبين أن الفئة الأقل تعليماً، والأكثر فقراً، والأكثر هشاشة من المحتجين، الذين كانوا ينامون في ذلك "الجيتو"، كانوا هم في الآن ذاته الفئة الأقل حصولاً على الخدمات التي يقدمها نظام الدعم التابع لحركة الاحتجاج. ليس هذا فحسب بل كانوا يفتقرون للقدرة على الوصول إلى المساعدات المقدمة من سكان المناطق القريبة في "منهاتن" السفلى المتعاطفين مع حركة الاحتجاج، فكأنهم وهم داخل الحركة، وفي صميمها، يعانون من نفس الأشياء التي كانوا يعانون منها في المجتمع الكبير خارجها. وهي مفارقة لافتة حقاً. لكن ذلك لا ينال من أهمية الحركة ولا من قيمتها، فهي التي جعلت الناس يطرحون أسئلة جوهرية بشأن جدوى وفعالية نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبشأن القضايا التي ينبغي الاهتمام بها، والقضايا التي يجب أن تنفضها عن كاهلها، وكانت هي الحركة التي أرسلت في ذات الوقت رسالة قوية لكل من يعنيه الأمر بأن الوقت حان للبحث عن طريقة أفضل لتنظيم السوق الحرة، والنظام الرأسمالي برمته. سعيد كامل الكتاب: احتلوا! مشاهد من أميركا المحتلة المؤلف: كيث جيسين وآخرون الناشر: فيرسو تاريخ النشر: 2012