ما هي العلاقة بين صحة الجنين أو المولود الجديد وبين الظروف البيئية والغذائية التي يتعرض لها أثناء تواجده في الرحم؟ وما علاقة صحة الأم واحتمال إصابتها بأمراض مزمنة أو معدية، أو تناولها لعقاقير أو أدوية أثناء الحمل، باحتمال إصابة المولود بعيوب أو تشوهات خلقية؟ عاد هذا النوع من الأسئلة للظهور على السطح مرة أخرى، بعد تواتر الدراسات التي تظهر أن الإصابة بالسكري ترفع من احتمالات إصابة الجنين بعيوب أو تشوهات خلقية، وبنسبة أعلى مما كان متوقعاً سابقاً. وآخر تلك الدراسات صدرت عن جامعة نيوكاسل في إنجلترا، ونشرت نتائجها في إحدى الدوريات المتخصصة في السكري (Diabetologia)، وأظهرت من خلال تحليل بيانات 400 ألف حالة حمل في شمال شرق إنجلترا، أن احتمالات إصابة الجنين بعيوب أو تشوهات خلقية، يتضاعف بمقدار أربع مرات إذا ما كانت الأم مصابة بالسكري أثناء الحمل. ويشير مصطلح العيوب الخلقية إلى الاضطرابات والاختلالات التي تتواجد منذ لحظة الولادة -والتي غالباً ما تظهر أيضاً أثناء وجود الجنين في الرحم- أو تلك التي تظهر في الشهر الأول بعد الولادة. وللتبسيط، يمكن تقسيم العيوب الخلقية إلى قسمين رئيسيين؛ القسم الأول هو العيوب التشريحية أو التشوهات، والقسم الثاني هو العيوب أو الأمراض الوراثية، التي كثيرا ما تترافق بعيوب تشريحية أيضاً. ويتعرض 3 في المئة من المواليد الجدد لتشوهات خلقية كبرى، ذات تأثير واضح على صعيد الشكل الجمالي، أو على قدرة الأعضاء أو الأطراف على تأدية وظيفتها. وتعتبر العيوب الخلقية التي تصيب المخ هي الأكثر انتشاراً (10 لكل ألف حالة ولادة لطفل حي)، وتليها العيوب التي تصيب القلب (8 لكل ألف)، ثم الكلية (4 لكل ألف)، ثم الأطراف (1 لكل ألف)، وتصيب البقية الباقية من العيوب الخلقية مجتمعة (6 لكل ألف حالة ولادة)، وإن كانت العيوب الخلقية التي تصيب القلب هي التي تتسبب في أكبر عدد من الوفيات بين المواليد الجدد، أو 28 في المئة من الوفيات، تليها في ذلك عيوب الكروموسومات والجهاز التنفسي، وهذان النوعان يتسببان في 15 في المئة، ثم العيوب التي تصيب المخ وتتسبب هي أيضاً في 12 في المئة من الوفيات بين جميع المواليد الجدد المصابين بعيوب خلقية. والمؤسف أنه على رغم هذا الانتشار الواسع -نسبيّاً- للعيوب الخلقية، إلا أن ما بين 40 إلى 60 في المئة منها لا زال مجهول أو غير معروف السبب، ولا توجد علاقة واضحة بينه وبين الظروف البيئية أو الغذائية، أو بينه وبين صحة الأم، وإن كان ما بين 20 إلى 25 في المئة من العيوب الخلقية يبدو أن له علاقة بمجموعة من العوامل البيئية التي تتفاعل مع عدد من الاختلالات الجينية الخفيفة، بالإضافة إلى ما بين 10 إلى 15 في المئة من العيوب الخلقية التي توجد صلة واضحة ومباشرة بينها وبين عوامل بيئية محددة، مثل العدوى، أو مرض الأم، أو إدمانها للمخدرات أو الكحوليات، كما أن ما بين 10 إلى 25 في المئة من العيوب الخلقية ينتج عن اختلالات وراثية صرفة، غالبيتها يقع في الكروموسومات أو الأجسام الصبغية. وهذه الاختلالات الوراثية، على رغم أهميتها، وإدراك دورها في إصابة المولود بعيب أو تشوه خلقي، وقدرتها على الانتقال عبر الأجيال، أو الظهور مع طفرة جديدة، تطغى عليها أهمية الدور الذي تلعبه العوامل البيئية المحيطة بالجنين التي تعرف بمشوهات الأجنة (Teratogens)، بسبب إمكانية وقاية الأم والجنين من تأثير تلك المشوهات، على عكس الاختلالات الوراثية التي لا يمكن تفاديها في الغالبية العظمى من الحالات. وتشمل مشوهات الأجنة نقص بعض المكونات الغذائية والمكملات من الفيتامينات والمعادن، أو بعض الأمراض المعدية، أو التعرض للسموم والأشعة المتأينة مثل تلك التي تستخدم في الفحوص الطبية. وعلى سبيل المثال يؤدي نقص حمض الفوليك أو فيتامين (B9)، إلى إصابة المولود بتشوه في العمود الفقري (Spina Bifida)، يصاحب بضعف أو شلل في الساقين، وعدم قدرة على التحكم في عمليات التبرز والتبول، وتشوهات في العظام. كما يؤدي تعاطي بعض المواد مثل الكحوليات، أو تناول بعض المواد السامة مثل الزئبق، أو بعض العقاقير كتلك التي تستخدم في علاج الصرع، إلى عدد من التشوهات الخلقية متعددة الأشكال. ومؤخراً أصبح الإفراط في شرب الكافيين، أو تعاطي النيكوتين من خلال تدخين منتجات التبغ، من السلوكيات التي تدرج تحت المشوهات الأجنة. وتحتل أيضاً بعض أنواع الأمراض المعدية أهمية خاصة في الإصابة بالعيوب الخلقية، مثل الحصبة الألمانية، والتوكسوبلازما، والزهري، وفيروس الهربس، وغيرها. أما على صعيد الأمراض المزمنة غير المعدية، وخصوصاً تلك التي تنتج عن اختلال في العمليات الحيوية داخل جسم الأم، فربما كان أهمها هو السكري، ونقص عنصر اليود في الغذاء، وأمراض الروماتيزيم، ونقص هرمونات الغدة الدرقية الخلقي، بالإضافة إلى نقص حمض الفوليك، وإدمان الكحوليات والمخدرات. ولكن على رغم تعدد وتنوع مشوهات الأجنة تلك، إلا أنها تظل مسؤولة عما بين 10 إلى 15 في المئة فقط من حالات الولادة بعيوب خلقية، وتظل البقية العظمى (40 إلى 60 في المئة) قضايا مسجلة ضد مجهول، يعجز الطب الحديث عن معرفة المتهم خلفها.