وسط أجواء من الاحتقان الذي يسود الساحة السياسية، وفي ظل نذر فوضى تهدد البلاد، يبدو المصريون حائرين بشأن كيفية التصرف فيما بقي من المرحلة الانتقالية التي بدأت بتنحي "مبارك" في 11 يناير 2011. فقبل أقل من خمسة أشهر على موعد انتهاء هذه المرحلة، في 30 يونيو القادم، لا يزال الضباب المخيم على المسار السياسي مستمراً، والارتباك الذي يحيطه متواصلاً، وإن اختلف طابعه من لحظة لأخرى. ويقترن هذا الارتباك الآن بالخلاف على الخطوة التالية في المسار السياسي، والتي يفترض أن تقود إلى إنهاء المرحلة الانتقالية، وهل تكون الأولوية لانتخاب رئيس الجمهورية وتسلمه السلطة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أم لإصدار الدستور الجديد. ويتركز الخلاف بين الخيارين في تباين الإجابة على السؤال التالي: هل ثمة خطر أو مخاطرة في انتخاب الرئيس بدون تحديد صلاحياته بوضوح ودقة في الدستور الجديد؟ وهل يمكن أن يكون هذا الوضع مدخلاً لبناء غير ديمقراطي؟ ومنطق السؤال، هنا، هو أن رئيساً غير محدد الصلاحيات يمكن أن يجد الفرصة مواتية للانفراد بالسلطة مستنداً على ميراث تسلطي قوي وعميق، معتمداً على حاجة قطاع واسع من الشعب إلى "منقذ" يعيد الأمن ويحرك عجلة الاقتصاد، ومستثمراً أنه منتخب من الشعب، في انتخابات نزيهة، ومستغلاً ضعف قدرة الأحزاب والقوى السياسية على بناء الحد الأدنى اللازم من التوافق، ومعتبراً أن عجزها عن التفاهم على الدستور الجديد يضعف الثقة في قدرتها على إدارة شؤون البلاد. ولأن هذا السيناريو قد ينطوي على خطر، يرى من يميلون إليه ضرورة الإسراع بإصدار الدستور حتى لا يتم تسليم السلطة التنفيذية إلى رئيس بدون صلاحيات محددة، وخصوصاً في ظل السلطات الرئاسية الهائلة المستقرة في التراث الدستوري المصري منذ دستور 1956. فليس معروفاً، وفق الرأي الذي يخشى عدم إصدار الدستور قبل انتخاب الرئيس، من سيكون هذا الرئيس وما الذي يمكن أن يفعله بالسلطة التي ستؤول إليه حتى إذا كان هناك برلمان منتخب لأن صلاحياته الهائلة تشمل دعوة الشعب للاستفتاء على حل هذا البرلمان. كما أن الوضع المتردي اقتصادياً وأمنياً يمكن أن يجعل قطاعاً واسعاً من الرأي العام مستعداً للرهان على "رجل قوي" يعد بأن يكون هو الحل، وخصوصاً إذا جاء الرئيس القادم متناغماً مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الأمر الذي يجمع الشرعية الانتخابية وشرعية الأمر الواقع. ورغم صعوبة الجزم باستبعاد هذا السيناريو، أو ما يشبهه، بشكل قاطع فثمة اتجاه آخر لا يشعر بوجود خطر في حال انتخاب رئيس بدون تحديد صلاحياته أي قبل إصدار الدستور الجديد حتى إذا خضع هذا الرئيس لغواية السلطة، لأنه سيخاطر في هذه الحالة بصدام ليس في مصلحته. ومنطق أصحاب هذا الرأي هو أن من يقدم على ذلك سيضع نفسه في مواجهة قوى سياسية ذات شعبية وقوى شبابية ذات عزيمة وإصرار يصعب كسرهما. وقد يكون لتقدير الوضع على هذا النحو أساس واقعي، خصوصاً في الوقت الذي لا يزال للثورة وجودها في الشارع. غير أن الرهان على صعوبة خطف الرئيس الجديد السلطة إذا انتُخب قبل إصدار الدستور الجديد قد يكون أقل إقناعاً إذا تحولت عملية إعداد هذا الدستور إلى معركة قد يطول أمدها وربما يتعذر إنجازها لوقت طويل أو لفترة يصعب توقعها. فهذا السيناريو يتيح للرئيس المنتخب فرصاً ثمينة لاستغلال الصراعات المتزايدة بين الأحزاب والقوى السياسية لفرض أمر واقع يصبح بمقتضاه هو محور السلطة، خصوصاً إذا صح افتراض أنه إذا لم يحدث توافق سريع على المسألة الدستورية (وبالتالي إصدار الدستور قبل انتخاب الرئيس) فالأرجح أن هذا التوافق لن يكون ممكناً لوقت طويل. ويقوم هذا الافتراض على أن غياب الثقة المتبادلة بين الأحزاب والقوى السياسية يوسع الفجوة بشأن مقومات الدولة والمجتمع، وربما الحقوق والحريات العامة أيضاً في وجود عدد كبير من نواب التيارات السلفية لا يمكن إغفال تأثيرهم في تشكيل الجمعية التأسيسية التي ستسعى إلى وضع مشروع الدستور. ولذلك ربما يكون التعجيل بإعداد هذا المشروع والاستفتاء عليه أفضل من الدخول في مخاطرة لا يمكن استبعادها. وقد يكون السبيل الوحيد إلى ذلك هو تجنب الصراع الذي قد لا ينتهي على الصياغات الخاصة بمقومات الدولة والمجتمع والحقوق والحريات العامة إذا شرعت الجمعية التأسيسية في كتابة الدستور الجديد كاملاً من الألف إلى الياء. فالأرجح أن يشتد الصراع على صياغة عدد غير قليل من المواد وتبديد الجهد والوقت في خلاف على عبارات وكلمات قد لا يتيسر التوافق عليها. ولتجنب مثل هذا الصراع، يمكن السعي إلى توافق عام على اعتماد القسم الأول من دستور 1971 المعطل حالياً. فليست هناك مشاكل جسيمة في الأبواب الأربعة الأولى في هذا الدستور (من المادة الأولى إلى المادة 72) تستدعي إعادة كتابتها. وثمة خيار آخر هو إبقاء القسم الأول من الإعلان الدستوري المؤقت الصادر في 30 مارس 2011 (من المادة 1 إلى 24) كما هو. ويختصر هذا القسم الأبواب الأربعة الأولى في دستور 1971 والتي تتضمن 72 مادة. وهي في مجملها جيدة، لأن مأساة هذا الدستور تبدأ في الباب الخامس المتعلق بنظام الحكم بدءاً من المادة 73 التي تدشن السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية. فالقسم الأول في دستور 1971 يرضي الجميع. فهو يتضمن المادة الثانية الخاصة بالشريعة الإسلامية، والمواد التي تؤكد أهمية الدين والأخلاق والقيم والتقاليد (9 و12 و19 و22 بصفة خاصة). كما يشمل هذا القسم، والذي كان بعضه معطلاً، بشكل رسمي أو فعلي عبر الإحالة إلى قوانين تفرغها من مضمونها، المواد التي تضمن مدنية الدولة وسيادة الشعب والمواطنة، وكذلك الحريات والحقوق العامة حيث يعتبر الباب الثالث الخاص بها (المواد من 40 إلى 63) هو الأفضل على الإطلاق في هذا الدستور، خصوصاً وأن استبعاد القسم الثاني منه يلغي تعديلات عام 2007 التي عطلت فقرات بالغة الأهمية في المواد 41 و44 و45 بشأن حقوق المقبوض عليه وحرمة المساكن والمراسلات وغيرها من وسائل الاتصال. ويمكن أن يكون في إبقاء هذا القسم في دستور 1971 كما هو، أو مختصره الوارد في الإعلان الدستوري لعام 2011، حل غير مثالي ولكنه قد يُخرج مصر من دائرة الصراع على مقومات الدولة والمجتمع بحيث يتركز عمل الجمعية التأسيسية في مسألة نظام الحكم (رئاسي أم برلماني أم مختلط) والعلاقة بين سلطات الدولة الثلاث لمنع تغول السلطة التنفيذية وضمان استقلال القضاء، وغير ذلك من القضايا البعيدة عن الصراع العقائدي والأيديولوجي الذي يخلق أجواء قاتمة ويُربك المسار الانتقالي ويهدد مستقبل البلاد والعباد.