"القلبُ المُحِبُ يُعمِّر منازلَ، والقلبُ المُبغِضُ يهدمها". هذه الحكمة السومرية التي يرددها العراقيون منذ خمسة آلاف عام امتَحَنت قلبي عندما دعتني زهاء حديد في الأسبوع الماضي إلى حفل توقيعها عقد إنشاء مقر "المصرف المركزي العراقي". وقّع من الجانب العراقي محافظ المصرف سنان الشبيبي، وجرى الاحتفال في متحف "فكتوريا وألبرت" في لندن، الذي يُعدُّ من أبرز متاحف الفن والتصميم العالمية، وهو المكان المناسب للاحتفال بتدشين زهاء حديد التي يعتبرها النقاد "سيدة العمارة العالمية" أول مبنى في العراق. وتتطلع الأوساط المعمارية العربية والعالمية بفضول إلى ما ستبدعه المهندسة في بلدها الذي يولول قلبها عليه خلال ثلاثة عقود من الحروب والحصار، وما يحمل عقلها له من خبراتها في بناء منازل، ومجمعات سكنية، ومدارس، ومعاهد، وأبراج تجارية، ونوادٍ، ومسابح، ومنصّات للقفز على الجليد، ومتاحف للفنون وللعلوم، ومسارح، ودور أوبرا، ومعارض، ومكتبات، ومجمعات طبية أكاديمية، ومحطات، وجسور. يُقامُ "المصرف المركزي العراقي" على شاطئ دجلة في منطقة الجادرية ببغداد، وفازت زهاء أيضاً بتصميم "البرلمان العراقي" الذي يقام في موقع مطار بغداد القديم، قرب نهر عيسى المعروف منذ العصر العباسي. وكم من مدن وأنهار وبحار وهضاب وسهول وغابات وجبال أقامت زهاء حواليها مباني قبل أن تبلغ بلدها، الذي انطلقت منه، وتعود إليه بحكمتها المعروفة: "لا يمكن تحقيق تقدم من دون عنصر من اللايقين، ومن دون الانغمار المثير في رحلة المجهول". و"ما يصدر من القلب يتعرف عليه القلب" حسب المثل السومري. وقد تعرّف المجتمع المعماري العالمي في عام 1996 على فوز تصميم زهاء جسر على نهر التيمس في لندن. "لكن يبدو من ردود الفعل في الصحافة البريطانية أنه من الأسهل لها إقامته على نهر دجلة في بغداد". قلتُ ذلك في تقرير على الصفحة الأولى من صحيفة "الحياة" اللندنية في 1 أكتوبر 1996. وكانت تلك رابع مرة تفوز فيها المهندسة العراقية في مسابقة دولية على أكبر المعماريين العالميين، ولم أستبعد أن تُحرم من ثمار الفوز، كما في السابق، بأساليب "معيبة وشائنة لا تليق بالمهنة" وفق تعبير "فرانسيس دوفي"، رئيس "المعهد الملكي للمعماريين في بريطانيا". لم يتقبل المسؤولون آنذاك أن تبني امرأة عربية مسلمة دار أوبرا غربية. وما خسرته بريطانيا فازت به الصين، حيث أتمت زهاء في العام الماضي بناء دار "أوبرا غوانغزو". وانتهى القرن العشرين وزهاء أشهر مهندس معماري لم يشّيد بناية ذات قيمة في مقر عمله بريطانيا، وبدأ القرن 21 وزهاء أشهر معماري لم يشيد بناية في موطنه. وهذه من أكبر مفارقات تاريخ العمارة العالمية. فعدد أعمال زهاء المنجزة أو قيد الإنشاء حالياً يربو على 80، بينها 10 في بلدان عربية، ومن أبرزها "جسر الشيخ زايد" في أبوظبي، ومتحفان للفن الحديث في روما بإيطاليا وفي سنسناتي بالولايات المتحدة، و"برج النيل" في القاهرة الذي يتكون من سبعين طابقاً، تدور أعلاها على جدران "زعنفية" تتيح رؤية متحركة مع خط الأفق. وسيشاهد ملايين المتابعين للسباقات الأولمبية في الصيف المقبل بَصمة زهاء على أرض بريطانيا. "المسبح الأولمبي" الذي صممته زهاء ينبثق كموجة قافزة على أرض مساحتها 24 ألف قدم مربعة. ويحتل "المسبح الأولمبي" الصدارة في معرض "التصميم البريطاني الحديث" الذي يفتتح الشهر القادم في متحف "فكتوريا وألبرت"، حيث تستقبل الزائرين ثُريّا "الدوّامة" التي صممتها زهاء. ارتفاع "الدوّامة" نحو مترين وعرضها نحو متر، وكالفنار في البحر تومض "الدوّامة" بألوانها البلورية في مدخل المتحف الذي تغطي معروضاته أكثر من ثلاثة آلاف عام من تاريخ الفنون العالمية، بينها تحف خزفية ومعدنية، وأثاث وأزياء، وزجاجيات، ومجوهرات، ولوحات، وصور فوتوغرافية، ومنحوتات، ومنسوجات. ويفخر المتحف بمجموعة نادرة من تحف الفن الإسلامي شرع بجمعها منذ القرن الثامن عشر. وزهاء راعية جائزة مؤسسة "عبد اللطيف جميل" السعودية للفن الإسلامي التي ينظمها المتحف، وتمنح كل سنتين لأعمال تستوحي الثقافة الإسلامية. يقول المثل السومري: "الشمس لا تغادر قطُّ قلبي الذي يفوق البستان". وكانت الشمس في قلب "رواق المنحوتات" في المتحف، حيث جرى التوقيع على عقد تصميم "المصرف المركزي العراقي". تتوزع الرواق تماثيل مستوحاة من الأساطير الإغريقية، بينها إله البحر "نبتون" بلحيته المتموجة، وتمثال "الحسان الثلاث العاريات"، ومنحوتة تمثل "حواء" كما خلقها ربها، وتمثال إلهة الحب "فينوس" تختطف معشوقها الفتى "أدونيس" من فوق حصانه وتتأبطه، وتمضي به وهي تخفي وجهها وراء ظهره. وكما في بساتين بغداد وقت الغروب، عاودتني وحشة المقبل على رحلة في المجهول. الأمان الوحيد في الرحلة جرأة زهاء، وهي من جرأة بلدها الذي أبدع أجرأ الخطط وأكثرها أماناً في أوقات صعبة ميئوس منها. وما أجرأ من مهندسة عراقية يربو عمرها على الستين، تقول عندما سألتُها كيف ستتدَّبر أمرها في العراق: "ينبغي البدء في مكان ما لإعطاء نوع من الأمل". وأمل زهاء في حجم بلدها: "ينبغي التفكير بالمدينة ككل، وليس بناية واحدة. التفكير بهيكل المدينة والدولة". وتستطرد كما لو كانت تتحدث عن أطفالها: "يحتاجون الآن إلى علاج الأمور بطريقة عمرانية، بعيداً عن السياسة". وقد اكتشفتُ في آخر دراسة أعددتها عن زهاء أن "الطريقة العمرانية" التي تدعو لها هي القوة "الأسطورية" لبلدها الذي أنشأ العمران منذ الألفية الخامسة قبل الميلاد، وازدهرت فيه حضارة المدن ألفي عام قبل أن تظهر مثيلاتها في حضارات العالم القديم. "زهاء حديد، عبقرية المكان" عنوان دراستي التي نشرتها بالإنجليزية مجلة "شؤون عربية معاصرة" في لندن، وبالعربية مجلة "المستقبل العربي" في بيروت، وفيها استعدتُ تساؤلات الباحثة البريطانية "غويندلين ليك" المتخصصة بتاريخ العراق القديم: "لماذا ولدت المدينة لأول مرة في التاريخ في بلاد ما بين النهرين؟".. هل يعود ذلك إلى توافر تربة بالغة الخصوبة، وظروف جغرافية وبيئية متغيرة وغير مستقرة، ومواقع طبيعية غير قابلة للتنبؤ، وتفتقر تماماً إلى حدود مادية تعزلها اجتماعياً وثقافياً؟.. وما الذي جعل 90 بالمئة من سكان العراق القديم يعيشون في المدن مع نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد؟.. وكيف أصبحت "بابل" عاصمة العالم في منتصف القرن الأول قبل الميلاد؟ الأجوبة قد تأتي بها زهاء من بغداد المقبلة على أوقات مثيرة، ليس الموت فيها، بل الحياة. وقد بدأ ذلك قبل أن تضع أول خطوة على أرض بلدها بالإعلان عن خسارة زهاء مسابقة بناء مقر "الأمانة العامة لمجلس الوزراء" في بغداد!