في النقاش العالمي حول النفط وتأمينه، هناك مدرستان رئيسيتان: المدرسة الأولى هي تلك التي تركز على كميات النفط وأسعاره وربطهما بالعرض والطلب، وهي المدرسة السائدة. وقد يكون هذا منطقياً في ضوء الاحتياجات العالمية المتزايدة من جانب الصين وكذلك دول الاقتصادات الناشئة. لكن تحليلات هذه المدرسة التي يسيطر عليها الاقتصاديون، تبقى ناقصة على أساس أننا لا نعيش في عالم يسيطر عليه الاقتصاد فقط، بل على العكس من ذلك، هو عالم تتحكم فيه السياسة، ومن هنا تأتي أهمية المدرسة الثانية. فبالرغم من عدم تهميش إحصائيات العرض والطلب، تهتم هذه المدرسة الثانية، أساساً بالمحيط السياسي -داخلياً أو خارجياً- على أساس السوق العالمي. وفي الواقع فإن تاريخ الشرق الأوسط الحديث، يؤكد أولوية العامل السياسي في التأثير على "اقتصادات النفط"، سواء أكان عاملاً داخلياً أم دولياً. ولنتذكر أن الانقلاب على مصدق في إيران في بداية خمسينيات القرن الماضي، كان في جوهره مرتبطاً بالنفط، كما أن العدوان الثلاثي على مصر، وكذلك حرب عام 1967، قد أديا إلى إغلاق قناة السويس، وبالتالي اضطرار ناقلات البترول إلى أخذ الطريق بين الخليج وأوروبا عن طريق الالتفاف حول أفريقيا، أي ما يعني زيادة مدة الإبحار بما يصل إلى حوالي15 يوماً، وبالتالي إضافة نفقات باهظة. كما ارتبط الحظر البترولي وارتفاع أسعاره في عام 1973-1974 بالحرب العربية الإسرائيلية الرابعة في أكتوبر 1973، وكان للحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، ثم غزو صدام للكويت سنة 1990... وغير ذلك من الأحداث السياسية، وآخرها بالطبع ما يحدث حول مضيق هرمز حالياً... تأثير مباشر على مؤشرات السوق العالمية للبترول. وقد أصبح اسم مضيق هرمز، والذي يبلغ طوله 280 كلم وعرضه 50 كلم في أضيق مناطقه، حاضراً بكثافة في مانشيتات الإعلام العالمي وفي كواليس السياسة الدولية. وبالفعل فإن التوتر يزداد حول هذا الممر المائي العالمي، خاصة جراء التهديدات بإغلاقه وبتوجيه الصواريخ أو وضع الألغام، وهي تهديدات تضع في مكمن الخطر أهم طرق مرور البترول، في وقت لا تستطيع ممرات بحرية أخرى تقديم البديل المكافئ والمناسب. فمثلاً، ما يمر عبر هذا المضيق يبلغ حوالي ثمانية أضعاف ما تستطيع قناة السويس تقديمه، وحوالي 15 ضعفاً لما يستطيع تقديمه خط الأنابيب "سميد" SMED الذي يربط البحر الأحمر (عن طريق العين السخنة والسويس) بالبحر الأبيض (عن طريق سيدي كيرير، غرب الإسكندرية). وقد شهدنا في الآونة الأخيرة مواجهة بين المدرستين المذكورتين، وذلك خلال مؤتمر قام بتنظيمه في لندن المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتم هاوس). فبسبب سمعته ومصداقيته يلبي دعوته كبار الساسة والاقتصاديين والأكاديميين. وقد شارك في أعمال مؤتمره الأخير -وعلى سبيل المثال لا الحصر- وزير البترول السعودي المهندس بن إبراهيم النعيمي، وكذلك سكرتير عام الدول المصدرة للبترول (أوبك)، علي عبدالله البدري، ووكيل وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى والذراع الأيمن لكوندوليزا رايس سابقاً، السفير ديفيد ولسن، ورئيس لجنة الطاقة والبترول في مجلس النواب العراقي عدنان الجنابي، ووزير الدولة البريطاني لشؤون الطاقة تشارلز هندرلي... كما كان هناك بالطبع العديد من ممثلي شركات البترول وكذلك بعض المحللين والأكاديميين. ومن أهم قواعد اجتماعات هذا المعهد الملكي، ما يعرف عالمياً الآن بـ"قواعد تشاتم هاوس"، أي أنه بالإمكان الإفصاح عن المناقشات وحتى المواقف المختلفة، لكن مع عدم ربطها صراحة بأصحابها أو قائليها، وذلك حفاظاً على سرية هذه المناقشات وتحفيزاً لأن يقدم كل مشارك رأيه بصراحة دون أن يحاسب بعد ذلك أو تلاحقه أجهزة الإعلام أو القضاء. لا مناص إذن، في هذا المقال، من احترام ذلك الالتزام، لكن من الممكن القول إنه رغم محاولات بعض المتحدثين التركيز على الناحية الفنية والكمية فيما يتعلق بإنتاج البترول حالياً، وحتى سيناريوهات 2035، وهي معلومات مهمة للغاية، إلا أن النقاش الأهم كان عن النواحي السياسية، خاصة في ضوء أحداث الحراك الديمقراطي العربي وتداعياته، وزيادة التنوع داخل المنطقة العربية بين دول تخلصت من أنظمة أو رؤساء، لكنها لا تزال تعاني من عدم الاستقرار، وبين دول في خضم حروب أهلية مثل سوريا أو اليمن، ثم دول تزداد رفاهية مثل قطر والإمارات. ثم كان السؤال عن كيف سيتطور الوضع العربي في ظل مثل هذا التنوع؟ وما هو دور كل من إيران وتركيا، ودول كبرى مثل الصين والهند؟ ويا حبذا لو قامت بنوك التفكير العربي بالبحث عن إجابات لمثل هذه الأسئلة المحورية بدلاً من تركها للخارج.