هل تسير أميركا نحو الانحدار؟ وهل نفوذها العالمي آخذ حقاً في التراجع والاضمحلال؟ الحقيقة أن هذين السؤالين يُطرحان كثيراً الآن مع احتدام الحملة الانتخابية خلال الأيام والأسابيع الأخيرة، فحسب "الجمهوريين" تكمن المشكلة الأساسية لسياسة أوباما الخارجية في اعتقاده أن أميركا باتت قوة آفلة، وأن كل ما نستطيع القيام به هو إدارة هذا الأفول والتعايش معه. وهذا الانتقاد أثير في العديد من المنابر التابعة للمحافظين، ويثار اليوم أيضاً في السباق الانتخابي، فعلى سبيل المثال يبدو "جون بولتون" الذي انضم إلى فريق السياسة الخارجية للمرشح الجمهوري المحتمل، ميت رومني، واضحاً في هذا الصدد، فهو يعتبر أن أوباما "يؤمن بأن دور أميركا في العالم هو أن تكون لقمة سائغة يتجاسر عليها الجميع"! ولا يختلف رومني نفسه عن هذا المنطق، ولاسيما أنه ألف كتاباً عن عظمة أميركا، إذ يقول: "إنني أرفض تماماً فكرة تراجع أميركا"، فقد يكون أوباما مستعداً "لرفع راية الاستسلام، ولكن الله لم يخلق هذا البلد ليكون أمة من التابعين". غير أن أوباما بعد هذه الموجة من الانتقادات عاد ليؤكد هو أيضاً أنه بعيد عن منطق التراجع أو الأفول الأميركي الذي يُروج له في وسائل الإعلام، ففي خطاب "حالة الاتحاد" مؤخراً تفوق الرئيس على خصومه الجمهوريين عندما أعلن أن "كل من يقول لكم إن أميركا إلى انحدار، أو أن النفوذ الأميركي في تراجع فهو لا يعرف شيئاً عما يتحدث عنه". والحال أن أي دبلوماسي نزيه سيقول لك إن القوة الأميركية في العالم آخذة في الاضمحلال، وإذا واصلنا الإصرار على نفي هذه الحقيقة فإننا فقط نعجل بانحسار قوتنا ونسرع تلاشيها. وبتتبعنا لأسباب التراجع الأميركي نجد محددين اثنين يقفان وراءه، يكمن الأول، الذي لا يشكل بالضرورة عنصر إزعاج بالنسبة لنا، في صعود دول أخرى على الساحة الدولية، ففيما تستمر أميركا متربعة على عرش القوة العسكرية العالمية بامتلاكها قدرات لا تضاهى، فإنه لابد من الاعتراف بانحدار القوة الأميركية الآن لأن بلداناً أخرى كانت في السابق ضعيفة امتلكت أسباب القوة ودخلت حلبة المنافسة، فأوروبا على رغم محنتها الحالية ما زالت قوة اقتصادية ودبلوماسية لا يمكن الاستهانة بها. أما الصين والهند والبرازيل فهي بلدان صاعدة وقد تحولت إلى قوى إقليمية ذات قدرات مؤثرة على الصعيد العالمي. والنتيجة المنطقية لصعود باقي الدول هي تدنٍّ ملحوظ في القوة الأميركية. فعلى مدى العقد الأخير على سبيل المثال تراجعت حصة أميركا في الاقتصاد العالمي من 23,5 في المئة إلى 19 في المئة، كما أن استراتيجية الأمن القومي التي ترجع إلى عام 1987 في عهد إدارة ريجان أشارت إلى هذا الانحدار بقولها: "لم تعد أميركا القوة الاقتصادية الكبيرة مقارنة بأوروبا الغربية وجنوب شرق آسيا"، وهو الأمر نفسه الذي تردد صداه في استراتيجية الأمن القومي في عهد إدارة بوش الأب حيث تقول هي أيضاً إنه: "لا مفر من تقلص سيطرتنا الاقتصادية بعد الحرب الباردة". ولو كان ريجان على قيد الحياة لاتهمه المحافظون اليوم بأنه انهزامي، ولكنه كان واعيّاً بأن التراجع الأميركي قد يكون أمراً جيداً إذا ما استطعنا تحويل الدول الصاعدة إلى دول حليفة. ذلك أن أميركا ستزدهر أكثر لو أحاطت نفسها بدول قادرة على تحمل جزء من الأعباء الدولية وتحمل مسؤولياتها. ولكن إلى جانب المحدد الخارجي المسؤول عن هذا التراجع الأميركي الواضح، هناك أيضاً عامل داخلي لا يقل أهمية عن نظيره الخارجي. ويبدو أن أوباما وضع إصبعه هنا على الداء عندما تساءل في خطاب "حالة الاتحاد" عما إذا كنا نريد بلداً "تزدهر فيه أقلية من الشعب فيما عدد متزايد من الأميركيين بالكاد يعيشون"! فقد تم، بجميع المقاييس العالمية، إفراغ الحلم الأميركي من مضامينه، وعلى سبيل المثال فقد تدنى معدل الحياة في أميركا مقارنة مع باقي الدول الصناعية. والأمر نفسه ينطبق على معدل وفيات الأطفال ونسبة التسجيل في التعليم الأساسي، كما أن لدينا في أميركا أعلى معدل للسجناء في العالم، بالإضافة إلى ما ساهمت حركة "وول ستريت" في تسليط الضوء عليه وهو الهوة الكبيرة في الدخل بين الأميركيين والفوارق الشاسعة في مستوى المعيشة، ولذا فإن التهرب من هذه الاختلالات والتنكر لها يعد مشكلة كبرى حقيقية. فنحن لا نستطيع البقاء دولة رائدة في العالم إذا كانت الظروف الداخلية تتجه حثيثاً نحو حالة شبيهة بأحوال دول العالم الثالث، كما أنه لا يمكن إجراء نقاش صريح حول هذه القضايا لو استمر البعض منا في دفن رؤسهم في الرمال. وأكثر من ذلك أن حالة الإنكار هذه تحيل إلى مفارقة لافتة في أميركا، إذ في الوقت الذي ينتقد فيه المحافظون ثقافة إعلاء قيمة الذات المتمثلة في برامج الاستحقاق الاجتماعي وغيرها من المظاهر، نجدهم فيما يتعلق بمكانة أميركا العالمية يسارعون إلى تضخيم دورها ومنحها شارات الاستحقاق دون أن يكون ذلك مبنيّاً على إنجازات حقيقية على أرض الواقع. ولذا فإنه على رغم محاولات أوباما في خطاب "حالة الاتحاد" التقليل من لغة الحديث عن الانحدار الأميركي، إلا أن عليه مصارحة الأميركيين، فلو استمر الجميع في الكذب على الذات سيكون التراجع سريعاً ولن يمكن وقفه في النهاية. روزا بروكس كاتبة ومحللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"