عندما كنتُ أكتب مقالتي هذه عشية الجمعة 4 فبراير 2012 كانت الأزمة السورية لاتزال تُراوح داخل أروقة مجلس الأمن تحت وطأة الاعتراض الروسي. فبعد الجلسة العلنية يوم الثلاثاء 1 فبراير 2012، والتي أعلن فيها المندوب الروسي رفضه، وسانده الصيني، تحولت الجلسات إلى دورات تفاوُضٍ وتشاوُرٍ، وصارت المساوماتُ تدورُ من خلف الستار ومن وراء الكواليس. ويقال إنّ المسودات حتى صبيحة 4 فبراير بلغت ثلاثاً دون حدوث تقدمٍ محسوس. وما كانت المفاوضات السرية ولا المسودات تدور حول حذف العقوبات من القرار العربي، ولا على حذف التدخل العسكري منه، فهاتان أسطورتان نشرهما الروس والسوريون، ولا أساسَ لهما من الصحة، لأنّ القرار العربي ببساطةٍ لم يتضمَّنَهما أصلاً! المسودات والمساومات دارت حول تسليم الأسد سلطاته لنائبه الأول، وحول متابعة مجلس الأمن للقرار في حالة صدوره (بعد نصف شهرٍ أو شهر)، وهل يكون تحت الفصل السابع أو لا يكون. إنما الصحيح أيضاً أن هذه الأمور ما كانت هي بحدّ ذاتها الموضوع. فالروس يقولون إن سوريا مهمةٌ جداً بالنسبة لهم، لأنها آخِر مناطق نفوذهم في المشرق العربي، وهم يخشَون من قوة الإسلاميين بسوريا، والذين سيعمدون إلى اضطهاد الأقليتين العلوية والمسيحية! ثم إنّ الأميركيين استخفّوا كثيراً بروسيا وببوتين إلى حدّ إثارة المظاهرات ضدَّه بالداخل الروسي، واتهامه بتزوير الانتخابات النيابية! وهكذا فإن الروس يزعمون عندما يشتدُّ الإحراجُ عليهم، أنّ الأسد ليس تابعاً لهم ولا يهتمون لمصيره، بل إنهم يقودون حملةً شعواء على الإمبريالية الأميركية! وبغض النظر عن مدى جدية هذا الكلام؛ فالمتوقَّع ألا تتقدم المساومات معهم إلى حين اجتماع وزير الخارجية الروسي لافروف بهيلاري كلينتون يوم أمس السبت بميونخ. ما هي فائدةُ القرار الدولي إنْ حصل، ما دام لا يشرعن للعقوبات أو للتدخُّل العسكري؟ له فيما يقول المراقبون فائدتان: الضغط المعنوي والذي قد يجلب معه إجراءات من جانب أكثر أعضاء مجلس الأمن والأُمم المتحدة، وتشجيع الوكالات والمنظمات الدولية على التدخل لحماية المدنيين السوريين، وتصاعد الإدانات لما يحصل للشعب السوري. ومن الطبيعي عندما يوافق الروس والصينيون والهنود وغيرهم على القرار، أن يتوقفوا عن إرسال شحنات الأسلحة، وعن تقديم الدعم الاقتصادي، فلا يبقى له غير إيران وحلفائها في العراق ولبنان! فهناك إذن زيادة في الضغوط إلى حدود الاختناق في المدى المتوسط، مع احتمال موافقة مجلس الأمن فيما بعد على إقرار الملاذات الآمِنة للمدنيين، والذين ما عاد كثيرون منهم يتمكَّنون من الفرار إلى تركيا، أو لبنان، أو الأردن أو العراق! وهكذا فإنه بقرارٍ ودونه، ليس هناك حلٌّ عربيٌّ أو دوليٌّ عاجل، يعيد للشعب السوري الأمن، ويمنحه حريةً في الحركة والحِراك! وهذا كلُّهُ إنْ لم تحدث انعطافةٌ يقبل بمقتضاها النظام السوري الحلّ السياسيَّ العربيَّ بالفعل. والحلُّ المعروضُ عليه يعني التوقف تماماً عن القمع والعسكرة، والاتّجاه لتشكيل حكومة توافُقية تُجري انتخاباتٍ لمجلس تأسيسي، يتسلم السلطة التشريعية مؤقتا، ويكتب دستوراً جديداً يجري عليه استفتاء، إلى أن يصل الأمر خلال تسعة أشهرٍ إلى انتخابات رئاسية حرةٍ وديمقراطية. ووجهةُ النظر العربية من وراء ذلك أنّ هذا المسار يوقف القتلَ عن الشعب السوري، وتبقى المؤسَّسات، ويستعيد الجيش وحدته، وتتضاءل الشكوك والهواجس الطائفية، وتُحفظ سوريا من التدخلات من أيّ جهةٍ أتت. وفي نظر المراقبين أنّ النظام ما قبلَ حتى الآن بهذا المسار، لأنه يعني فقد السلطة بالتدريج. وإذا كان الأمر كذلك، أي أنّ النظام يريد الاحتفاظ بالسلطة كُلِّها، فإلى ماذا يستندُ في القدرة على ذلك؟ يستند النظام في القدرة على الاحتفاظ بكلِّ السلطة بالصيغة القديمة والمستمرة إلى عدة أمور: تماسُك قطعات من الجيش وقوى الأمن والاستخبارات من حوله (من مائة ألف إلى مائة وخمسين ألفاً). وهذه القطعات مستميتةٌ في الدفاع عن النظام، لأنّ ضباطها يعرفون أنهم سوف يزولون نتيجة الدخول في الحلّ السياسي، وخلال سنةٍ أو سنتين. والأمر الثاني أنّ الإيرانيين هم في ذروة صراعهم مع الأميركيين والأوروبيين، وهناك مفاوضاتٌ كثيفةٌ سرية وعلنية بالواسطة، وليس في الأُفق أمارات على تسويةٍ أو صفقةٍ عاجلة، لذلك فإنّ الإيرانيين سيحمون النظام السوريَّ إلى حدود قدرتهم القُصوى إلى أن يحين أوانُ الحلول مع الولايات المتحدة. وهذا يعطي النظام إمكانياتٍ للصمود في وجه الضغوط، لأنّ إيران وحلفاءَها لا يكتفون بالدعم المباشر بشتّى الوسائل وحسْب؛ بل ويحولون دون التدخُّل التركي، ودون الفعالية العربية بتهديد الخليج والضغط على الجوار في شتّى الاتجاهات. والأمر الثالث أنّ إسرائيل لاتزال حائرةً فيما هو الأفيد لها: الهجوم على إيران مباشرةً، أو انتظار ردود الفعل على الوقائع من جانب "حزب الله" وسوريا. وهناك نظريةٌ يروِّج لها بعضُ الخبراء الاستراتيجيين الأميركيين وهي أنّ الضغوط الهائلة على إيران وسوريا، ستدفع الإيرانيين و"حزب الله" والنظام السوري أو تستدرجهم إلى"الاعتداء" على إسرائيل، فيسهُلُ ضربُ الجميع بنتيجة ذلك. وهذه الحيرة تعني أنّ النظام السوريَّ آمِنٌ مؤقتاً ما دامت "ورقة" الوقفة الاستراتيجية هذه حاضرةً وفاعلة. وباختصار، فإنّ قدرة النظام على الاستمرار آتيةٌ من صمود قواته وكتائبه الخاصة، وعدم وجود أو حصول صفقة بين روسيا والولايات المتحدة، ووقوف إيران والولايات المتحدة على سلاحهما كما يقال، دونما تسويةٍ من جهة، ودونما اندلاعٍ للنزاع المسلَّح بينهما. وهذا الكلام كلُّهُ ما ورد فيه شيء عن الداخل السوري وقُدُراته الكبيرة أو المحدودة. فالتظاهُراتُ لاتزالُ تحدث في المناطق الخمس الرئيسية، كما حدث مؤخَّراً في ذكرى مجزرة حماة عام 1982، وهي: درعا وريفها، حمص وريفها، حماة وريفها، إدلب وريفها، ريف دمشق. وفي الأسبوعين الأخيرين دخل طُلاب حلب وفتيانها على خطّ التظاهُر، واستمرت التحركات في أربعة أو خمسة أحياء من دمشق، وبعض النواحي الجديدة في الرقة. والظاهرةُ الثانية أنّ تحركات الجيش السوري الحر أو المنشقّين عن الجيش، ازدادت قوةً وفعالية. وتطورت تلك التحركات إلى القدرة على تعطيل هجمات الشبيحة في النواحي الخمس، وخوض معارك كرّ وفرّ مع كتائب الأسد وقواته الخاصة. ولا عبرة بعودة الجيش إلى إخضاع ريف دمشق، لأنه لا يستطيع الصمود فيها لكثرة تعرضه للهجمات. والظاهرة الثالثة أنّ "المجلس الوطنيَّ السوريَّ" صار يشكّل رقماً صعباً، بعد أن انهارت كل شرعية "هيئة التنسيق" التي "احتالت" من قبل باسم معارضة التدخل الخارجي. وكلُّ الدول الكبرى، وكثير من الدول العربية، تتعامل الآن مع "المجلس الوطني"، باعتباره خياراً حقيقياً أو بديلاً عن النظام أو على الأقلّ باعتباره شريكاً تفاوُضياً قوياً. والظاهرة الرابعة أو النتيجة لكلّ السابق، أنّ الانسداد أو اللاجدوى في التماس الحلّ الدولي، دفع ويدفع أطرافاً في الجوار القريب والبعيد إلى دعم المعارضة السورية غير المسلَّحة والمسلَّحة. والذي أراه، سواء جرت الموافقة بمجلس الأمن على المبادرة العربية أو لم تجر، أنّ الحسْم سيبقى بيد الداخل السوري، لكنّ الأعباء والتكاليف كبيرةٌ وخطيرة. بيد أنّ هذه الأعباء والجراح التي تنزل بالناس كلَّ يوم، ينزل مثلُها بالنظام الذي فقد الشرعية، وما عادت لبقائه ميزات غير ارتكابات القمع والقتل: { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون}.