إذا أردنا الحكم على الأمور انطلاقاً من النقاش الدائر في الأمم المتحدة الآن بشأن الأزمة السورية، يمكن القول إن الصراع الحالي قائم بين جامعة الدول العربية والديمقراطيات الغربية من جهة، وروسيا المتصلبة، التي تحاول دعم النظام السوري الاستبدادي، من جهة أخرى. ولكن ليت الأمور كانت بهذه البساطة! في الواقع، يحجب النقاش الدائر في الأمم المتحدة وراءه ما أصبح اليوم واحداً من أكثر صراعات القوى تعقيداً وتقلباً وخطورة في تاريخ الشرق الأوسط -صراع أصبح فيه الأسد والمعارضة السورية بمثابة بيادق، وروسيا والولايات المتحدة لاعبين هواة. فالدراما المركزية في سوريا هي اليوم، في رأيي، عبارة عن مواجهة تحشد الزخم عبر المنطقة منذ الغزو الأميركي للعراق في أبريل 2003. ثم جاءت الأزمة السورية لتسرِّع اختباراً حاسماً للقوة بين السنة والشيعة، وبين تركيا وإيران. كما أدى هذا الاستقطاب إلى أزمات وجودية بالنسبة للفلسطينيين، والأكراد، والحكومة الشيعية في العراق. أما بالنسبة لروسيا والولايات المتحدة، فإن الأزمة السورية لا تعني إظهاراً لقوة مجلس الأمن الدولي بقدر ما تعني كشفاً يمكن أن يكون مدمراً عن الضعف الذي يعاني منه المجلس، ويمكن أن يضر بشكل كبير بمكانة القوتين الدوليتين الكبريين في المنطقة. ثم إن أفضل حليف للدول العربية الساعية لإنهاء الأزمة السورية، ضد خصومها ليس الولايات المتحدة وإنما حكومة أردوغان التركية، التي تدعم بشكل صريح الجيش السوري الحر. فأردوغان أيضاً يقول إنه يشعر بالغضب من وحشية نظام الأسد. ولكنه كإسلامي سني وزعيم طموح لقوة صاعدة، يرى أيضاً فرصة استراتيجية لتركيا حتى تحل محل منافستها الإقليمية إيران باعتبارها الحليف الأكثر نفوذاً وحضوراً في الأقاليم الشرقية السابقة للإمبراطورية العثمانية. فداخل سوريا، تقوم تركيا بدفع "الإخوان المسلمين" السنة؛ وفي العراق المجاور، أصبح الدعم التركي للأحزاب السنية، ولمنطقة كردستان، واضحاً بشكل متزايد. وهذا يجرنا أيضاً للحديث عن نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي الشيعي وهو رجل معروف بتفكيره الارتيابي حتى في أفضل الأحوال. فقد خلص المالكي إلى أن النزاع السوري يعرِّض الهيمنة الشيعية في بغداد، التي تعد من أهم إنجازاته الشخصية للخطر. وهذا الخوف، أكثر من الميولات السلطوية، هو الذي كان الدافع وراء حملة المالكي ضد الزعماء السنة -التي أغرقت العراق في أزمة راهنة خاصة به هو الآخر. وهذه النزعة التركية إلى تأكيد القوة ورد المالكي دفعا السنة والأكرادَ إلى بحث ما إن كان ينبغي تقسيم مناطقهم الخاصة إلى كيانات فيدرالية ، وهي خطوة تبدو قابلة للتنفيذ أكثر في حال مالت سوريا نحو حكم سني. غير أن إيران، بالطبع، تقاوم. فقد قيل إنها أرسلت أسلحة ومستشارين إلى سوريا، وقد تردد أنها تضغط حاليّاً على المالكي لفتح ممر عبر الأراضي العراقية من أجل تسهيل عبور مزيد من الدعم المادي. غير أن المالكي، مثلما قيل لي، يقاوم -في الوقت الراهن على الأقل. ولكن خطوط ما يمكن أن يصبح بسهولة حرباً طائفية إقليمية رُسمت بوضوح. وبدورها، فإن حركة "حماس" الفلسطينية، التي تسيطر على قطاع غزة، لديها أزمتها السورية الخاصة بها هي أيضاً. ذلك أن هذا التحول في القوة الإقليمية تسبب تقريباً في قطع رابط الإمدادات مع إيران، وأرغم قيادتها الخارجية على الفرار من دمشق. ولكن ذلك أدى إلى تقوية كل من زعماء "حماس" في غزة وحركة "فتح" المنافسة في الضفة الغربية. وهو ما يعني أن الدعم الخارجي لـ"حماس" يمكن أن ينتقل إلى تركيا أردوغان، أو "الإخوان المسلمين" المصريين، أو حتى الأردن. وفي هذه الأثناء، تستطيع إسرائيل أن تشاهد برضا وارتياح ما يجري في وقت تنهك فيه قوى ألد أعدائها -إيران، و"حماس"، والأسد. غير أن المشكلة بالنسبة للفائزين الإقليميين المحتملين مثل إسرائيل وتركيا هي أن الأسد قد لا يرحل بسرعة. إذ ليس ثمة ما يؤشر إلى أنه، أو القيادة العلوية، مستعدون لقبول استراتيجيات الخروج التي تتم مناقشتها حاليّاً في الأمم المتحدة، بدعم روسي أو دونه. ففي الوقت الراهن، يبدو النظام عاقداً العزم على القتال حتى النهاية. وبالنظر إلى وجود فرق النخبة الخاضعة لسيطرة العلويين وكثير من الدبابات والمدفعية، فإن الأسد يمتلك القدرة على البقاء لأشهر؛ وبالنظر إلى المساعدة الإيرانية والروسية المستمرة، فإن ذلك يمكن أن يمتد إلى سنوات. ولنتذكر هنا أن الحرب الأهلية في لبنان المجاور دامت 14 عاماً. إن انهياراً سريعاً لنظام الأسد سيعرِّض روسيا لخسارة قاعدتها البحرية السورية وما تبقى لها من نفوذ في الشرق الأوسط، في حين أن قتالاً طويلاً وممتداً سيكشف عن ضعف خطير للولايات المتحدة. وبالنظر إلى استبعاد تدخل عسكري من قبل الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي "الناتو" في سوريا، فإن قرار أوباما القاضي بسحب كل القوات الأميركية من العراق تحديداً في الوقت الذي بدأت فيه هذه الأزمة تغلي وتتفاقم قضى تقريباً على الامتياز الاستراتيجي الذي كان لدى الولايات المتحدة. وعليه، فإن الاستراتيجية الأميركية اليوم تقوم إلى حد كبير على تصريحات تتحدث عن السقوط الحتمي للأسد، وقد تكون هذه خدعة يؤمل أن تؤثر على بوتين وجنرلات الأسد. ولكن، ماذا لو لم يحدث ذلك؟ الواقع أننا نستطيع أن نرى حرباً سورية تتسع وتتعمق، مع نتيجة تفوق بكثير ما يستطيع مجلس الأمن الدولي السيطرة عليه. جاكسون ديل محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة واشنطن بوست وبلومبورج نيوز سيرفيس