تمثل مسألة حوار الأديان والحضارات والثقافات أحد الانشغالات الرئيسية للمجتمع الدولي منذ عدة أعوام، سواء في الغرب أو في العالم الإسلامي، وهو الحوار الذي يؤكد المفكر الجزائري محمد أركون على أهميته، لكن أحد الشروط الأساسية لإنجاحه، يتمثل في قيام الجميع بنقد جذري لموروثاتهم الفكرية والدينية، لاسيما لاهوت القرون الوسطى الذي يكفِّر الآخرين وينبذهم ولا يعترف بهم، وبالتالي فإن انطلاق الحوار الجديد انطلاقة سليمة يتطلب عقلية جديدة لمواجهة المشكلات المطروحة على أمم العصر الراهن وثقافاته الكبرى. فبالعقلية القديمة المنغلقة الرافضة للآخر مسبقاً لا يمكن أن يتقدم الحوار -وبالتالي سياسة التعايش العالمي السلمي والخلاق- خطوة واحدة إلى الأمام. أما الشرط الأول لذلك النقد المطلوب، فهو الفرع المعرفي الذي يحاول أركون وضع لبناته الأساسية في كتابه "نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية"، وهو آخر مؤلفات صاحب "الإسلام، أوروبا والغرب"، "الفكر الأصولي واستحالة التأصيل"، "الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد"، "نزعة الأنسنة في الفكر العربي"، "العلمنة والدين"، "من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي"، "من منهاتن إلى بغداد... ما وراء الخير والشر". أما الكتاب الذي نعرضه هنا فقد صدر أشهراً قليلة بعد وفات أركون، وكان يتمنى رؤيته منشوراً والكيفية التي ستتلقفه بها الأوساط الفكرية والأكاديمية في العالم العربي. في هذا الكتاب يناقش أركون المسألة الأخلاقية في الفكر الإسلامي، متوقفاً بصفة خاصة عند الإشكالية العامة لبلورة فكر أخلاقي يليق بالعصر الراهن، كما يتطرق إلى مصادر الأخلاق مقارناً بين حجم الأهمية المنسوبة لكل من الدين والفلسفة والثورات العلمية، قبل أن يتساءل في عنوان كبير: "إلى أين تذهب القيم؟". وفي معرض محاولته استكشاف ملامح التفكير وأنماطه في الفضاء التاريخي المتوسطي، يحاول أركون بلورة مقدمات فكرية تؤسس لبناء تاريخ متضامن لشعوب وثقافات حوض البحر الأبيض المتوسط. وضمن ذلك الانشغال التأسيسي، يفرد أركون فصلاً من كتابه للوسطاء الثقافيين الثلاثة، وهم ابن رشد وابن ميمون وتوما الأكويني، قائلاً إنهم يمثلون نماذج تعايشية يجدر بنا استعادتها في ظل ظواهر العنف والنبذ والاستبعاد والتطرف... التي تهدد مجتمعاتنا الحالية، ثم يلقي الضوء على مفهوم الفضاء العقلي القروسطي، ويعقد مقارنة ضرورية بين العقلانية المنطقية والحقيقة الدينية، معرجاً على الأطر الاجتماعية للمعرفة، لاسيما سوسيولوجيا الفشل والنجاح، قبل أن يعود ليدعو مجدداً إلى جهد واسع من أجل التوحيد الفكري لما يسميه الفضاء المتوسطي. وإذا كان الكتاب في أغلبه قد قام على فرضية الانسجام بين ثقافات حوض الأبيض المتوسط، فإنه يعود في أحد فصوله ليكرس ثنائية الغرب والإسلام، وذلك بالحديث عن "صورة الآخر"، أو بالأحرى التشكيل المتبادل للصور بين الغرب والإسلام، فيتناول الآخر في النصوص الكبرى لليهودية والمسيحية والإسلام، والآخر في النصوص الفلسفية الكبرى، ثم يقدم عدداً وافراً من الملاحظات بشأن النصوص التي عادة يتم الاستشهاد بها حول موضوع تشكل الصور المتبادلة، ليقر أخيراً بوجود "الصراع بين أوروبا والغرب من جهة والشرق من جهة أخرى"، بعد أن كرس معظم صفحات كتابه، والتي يزيد عددها على أربع مائة صفحة، للحديث عن فضاء ثقافي وفكري متوسطي مشترك. وفي هذا الكتاب الذي يمثل خاتمة الأعمال الفكرية الثرية لأركون، تتجلى تلك النزعة الإنسانية التي ظلت مسيطرة على أعماله الفكرية منذ البداية وحتى وفاته، والتي يرى أنها تجسدت في العصر الكلاسيكي من عمر الحضارة الإسلامية، أي طيلة القرون الستة الأولى من تاريخ الإسلام وحتى وفات بن رشد وسقوط آخر معقل للفلسفة في الأندلس. وفي المقابل يعتقد أركون أن السيطرة الأوسع والأطول كانت دائماً للعقل الديني الذي يحصر تساؤلاته داخل إطار الوحي أو النصوص المقدسة، سواء أكانت التوراة أو الإنجيل أو القرآن. وقد استمر الأمر على ذلك النحو في أوروبا حتى القرن الثامن عشر، حيث حصلت قطيعة التنوير الكبرى وشب العقل عن الطوق، بينما بقي العقل اللاهوتي مسيطراً في العالم الإسلامي حتى يومنا هذا. ومع ذلك يعترف أركون بأنه من خلال التوتر الحيوي والخلاق بين أتباع العقل الديني وأتباع العقل الفلسفي، ولدت الأعمال الأدبية والفكرية الكبرى للإسلام الكلاسيكي، واستمر هذا الإبداع حتى وفاة ابن رشد بالنسبة للفلسفة، ووفاة ابن خلدون بالنسبة لتاريخ الحضارة والعمران البشري. وبتقليب صفحات هذا الكتاب، يتراءى للقارئ كما لو أن أركون يريد استعادة ذلك التوتر الخلاق من خلال الدعوة إلى بلورة سياسة "الأمل في حوض البحر الأبيض المتوسط"، كلبنة أساسية في بناء تاريخ مشترك للأديان التوحيدية... تاريخ تصنعه جهود اللاحقين بأثر رجعي. محمد ولد المنى ---------- الكتاب: نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية المؤلف: محمد أركون الناشر: دار الساقي تاريخ النشر: 2011