ظهرت مؤخراً صورة المرشح الجمهوري، ميت رومني، على غلاف مجلة "الإيكونمست" البريطانية مع عنوان كبير أسفل الصورة يقول: "المدير التنفيذي القادم في أميركا"، وهو العنوان الذي لم يكن مريحاً أبداً، ليس لأن "رومني" غير مؤهل لتولي الرئاسة، بل لأن ما تحتاجه أميركا في هذه المرحلة هو موظف قادم من الخدمة العامة وليس مديراً تنفيذياً لشركة، وهو أيضاً ما ينسجم مع المزاج العام للأميركيين الذين فضلوا في أغلب الأوقات مرشحاً يأتي من الخدمة العامة وأفاد القطاع العام، وحتى في المرات التي انتخبوا فيها عسكريين كانت الأفضلية دائماً لرجال القانون الذين يتولون مناصب عامة. ومع أن "رومني" تولى منصب حاكم ولاية ماساتشويستس لفترة واحدة، فإنه رجل أعمال معروف ومدير ناجح، ما يحتم علينا الإشارة إلى الاختلافات الكبيرة بين المهارات التي يتطلبها المدير الناجح لإحدى الشركات مهما كانت كبيرة وراسخة، وبين الموهبة الخاصة التي يستدعيها منصب رئيس الولايات المتحدة، فالحنكة في مجال الأعمال لا تترجم تلقائياً إلى مهارات جيدة في إدارة الاقتصاد الأميركي، ولنتذكر في هذا السياق بوش الإبن الذي رُوج له كثيراً على أنه أول رئيس حاصل على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال، ومع ذلك وبحسب استطلاعات الرأي يُرجع 54 في المئة من الأميركيين حالياً المصاعب الاقتصادية التي يمرون بها وتعصف بالولايات المتحدة إلى إدارة بوش الإبن فيما 29 في المئة من الأميركيين ينحون باللائمة على أوباما. ورغم التاريخ الطويل للركود الاقتصادي في أميركا الذي ربما يسبق بوش، فإن هذا الأخير فاقم الأزمة الاقتصادية بسياسته القائمة على عدم مراقبة القطاع المالي والتساهل مع وكالات التمويل العقاري، بالإضافة إلى تضخيم الدين الأميركي بالدخول في حربين كبيرتين ودعم امتيازات صرف الأدوية في أميركا. ولا ننسى أيضاً أن طبيعة اشتغال مدير الشركة يحتم عليه المضي منفرداً في تنظيف حقول الألغام المتمثلة وفقاً للشركات في الضرائب التي يتعين إزالتها والتنظيمات الحكومية الواجب تجاوزها. أما آخر ما يفكر فيه مدير الشركة، فهو فرض الرقابة على "وول سترتيت" وتنظيم نشاطاته، بل الأكثر من ذلك لا نملك سجلاً شخصياً عن رجال الأعمال وأصحاب الشركات، ذلك أن عملهم لا يعتمد على مراعاة الأخلاق العامة، أو السعي إلى خدمة الصالح العام وتقديم منافع للمجتمع. كما أن ثقافة رجال الأعمال تزدهر في إطار من السرية، بحيث يعتقد المديرون على سبيل المثال أنه لا شأن لأحد بقيمة الضرائب التي يدفعونها، هذا في الوقت الذي تنكشف فيه حياة السياسي وتصبح ملكاً للجميع. وكما قال لي صديق يصوت دائماً لصالح "الجمهوريين"، فإن حياة المدير في الشركة تُختزل في المعلومات والمعطيات المجردة التي يعكف عليها لزيادة الأرباح، وهو عالم تُختصر فيه الأشياء إلى أرقام، فرئيس مثل ريجان اتُهم مراراً بسياسته الاقتصادية المرتجلة كان الوحيد القادر على التعامل مع جورباتشوف وإقناعه بخفض الترسانة النووية والتعجيل بإنهاء الحرب الباردة، وهي أمور لا يجيدها سوى ممثل على شاكلة ريجان، والأهم من ذلك أن ريجان امتلك خاصية غالباً ما يفتقدها رجال الأعمال ومديرو الشركات والمتمثلة في حب الناس، وهي خاصية تستدعيها وظيفة الخدمة العامة التي تتطلب التعامل مع المواطنين والاهتمام بمشاكلهم. وفيما يستطيع مدير الشركة استئصال المعارضة داخل مؤسسته يتعين على رجل السياسة المنتخب في الحكومة التعامل مع الجميع واستيعابهم. فالرئيس الأميركي يكون مجبراً على التعاطي مع خصومه السياسيين والتفاوض معهم وتقديم التنازلات أحياناً، فمنذ اليوم الأول لتولي أوباما الرئاسة كان عليه العمل مع النائب الجمهوري في مجلس الشيوخ، "ميتش ماكونيل"، الذي تعهد أمام الملأ بأن مهمته الوحيدة هي ضمان عدم التصويت على أوباما لولاية ثانية. وخلافاً لقرارات رجال الأعمال المرتبطة بالشركات اتخذ أوباما وريجان من قبله سلسلة من القرارات السياسية المثيرة، لكنها ناجحة، فمثلا طالب "المحافظون" في أميركا بعدم التدخل لإنقاذ شركة "جنرال موتورز" بعدما أوشكت على الإفلاس، غير أن أوباما بحسه السياسي تدخل في الوقت المناسب لإنقاذ الشركة التي تعافت اليوم كلياً وعادت لتحتل مكانتها الرائدة في صناعة السيارات، وتتفوق حتى على تويوتا اليابانية ببيعها لتسعة ملايين سيارة، كما أنه على الرؤساء اتخاذ قرارات حاسمة فيها حياة أو موت الجنود، متجاوزين الانشغالات المالية لمديري الشركات. وباعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، وقف أوباما أحياناً ضد جنرالات البنتاجون مثلما حصل في ليبيا، فرغم تحفظ المؤسسة العسكرية لم يتردد أوباما في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لوقف القذافي من سفك الدماء، وهو ما نجحت فيه أميركا إلى جانب حلفائها عندما أطيح بالقذافي دون إراقة دم جندي أميركي واحد. ومع أن أوباما قد يكون خذل العديد من الذين صوتوا لصالحه، إلا أنه وخلال السنوات الثلاث التي أمضاها في البيت الأبيض صار واضحاً أن قراراته تتجاوز منطق الربح والخسارة التي تتحكم في نظرة المديرين. وفي الوقت الذي وصلت فيه قوة الشركات وقطاع الأعمال في أميركا مستوى غير مسبوق منذ القرن التاسع عشر، تحتاج أميركا اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى قادة ينحدرون من الوظيفة العمومية بدل المديرين، ومع أني متأكد من وجود المئات من أصحاب الشركات الناجحة ممن يعتقدون أنهم الأقدر على إدارة شؤون البلاد، إلا أن السؤال الأهم: لماذا المجازفة باختيار الثعلب لحراسة قفص الدجاج بعد أسوأ أزمة اقتصادية تمر بها أميركا منذ ثلاثينيات القرن الماضي؟ والتر روجرز كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان سيانس مونيتور"