جاءت المبادرة الأخيرة لصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، بتقديم عشرة ملايين دولار لدعم مركز "كارتر" في حملته لاستئصال ما تبقى من حالات دودة غينيا، لتسلط الضوء مرة أخرى على ما أصبح يعرف بالأمراض الاستوائية المهملة، ولتؤكد على استمرارية دور دولة الإمارات العربية المتحدة في دعم القضايا الإنسانية حول العالم. حيث اعتبر استثمار المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله لموارد ضخمة في تسعينيات القرن الماضي من أجل إطلاق حملة للقضاء على مرض دودة غينيا، من أوائل وأهم المساهمات الفاعلة في تخليص العالم من هذا المرض ذي العبء الإنساني والاقتصادي الفادح. ومرض دودة غينيا هو ببساطة مرض معدٍ، يتسبب فيه أحد أنواع الديدان الدائرية، وينتقل عن طريق شرب مياه ملوثة بحشرة متناهية الصغر، تعرف ببراغيث الماء، تحمل في داخلها يرقات الدودة. وعند ابتلاع المياه الملوثة ووصولها إلى المعدة تموت الحشرة لتخرج اليرقات من داخلها كي تخترق جدار المعدة والأمعاء، وتستوطن أحشاء الشخص المصاب. وعند وصول اليرقات والديدان إلى مرحلة البلوغ، تتكاثر وتتوالد، ثم تهاجر الإناث إلى الساقين والقدمين، لتخرج من الجلد، وتضع يرقاتها في الماء، كي تلتهمها الحشرات المعروفة ببراغيث الماء، ولتتكرر نفس الدورة في غضون عام. ويعود السبب في خروج الديدان من القدمين والساقين إلى كونها الأجزاء التي تتصل بالماء عند مشي الشخص المصاب في البرك والمياه الراكدة والآسنة، حيث تحتاج اليرقات إلى حشرات الماء كي تكتمل دورة حياتها. وتتسبب العدوى في أعراض عامة، مثل الحمى، والقيء، والغثيان، وإن كان يميز هذا المرض تعرض المريض لآلام مبرحة وحرقة شديدة في مسار هجرة الديدان من الأحشاء إلى جلد الساقين والقدمين، إلى درجة وصف البعض هذه الديدان باسم "أفعى النار" بسبب شدة ما تسببه من آلام. وتتسبب هذه الآلام -التي تترافق غالباً مع موسم الحرث ونثر البذور ومع موسم الحصاد- في إعاقة المزارعين عن زراعة حقولهم أو العناية بحيواناتهم، مما يؤدي إلى نقص حاد في الغذاء في القرى التي ينتشر فيها المرض، وفي تعميق الفقر في المجتمعات المحلية، حيث أظهرت مثلاً إحدى الدراسات، التي أجريت في قرى في جنوب شرق نيجيريا يستوطن فيها المرض، أن مزارعي الأرز خسروا 20 مليون دولار من إنتاجهم خلال موسم واحد، بسبب دودة غينيا، نتيجة لنقص الأيدي العاملة من جراء إصابة كثيرين بالمرض. كما أن دودة غينيا، وبسبب ما ينتج عنها من آلام مبرحة، تمنع كثيراً من الأطفال من الذهاب إلى مدارسهم، لفترة قد تصل أحياناً إلى أكثر من ثلاثة أشهر خلال العام الواحد. ويندرج مرض دودة غينيا ضمن ما يعرف بالأمراض الاستوائية، وهي الأمراض التي تتواجد فقط، أو تنتشر بشكل كبير، في المناطق القريبة والواقعة على خط الاستواء. ويعزى تركز وانتشار هذه الأمراض في تلك المناطق بالتحديد إلى طبيعة المناخ المتميز بجو دافئ معظم أيام السنة، مع معدلات مرتفعة لسقوط الأمطار، وهو ما يشكل بيئة مناسبة لتوالد الحشرات، الناقل الأساسي للأمراض الاستوائية. وفي الفترة الأخيرة أصبحت هذه الطائفة من الأمراض تحتل مرتبة متقدمة على قائمة أولويات سياسات الصحة العامة الدولية، وخصوصاً المجموعة المعروفة بالأمراض الاستوائية المهملة. وهذه المجموعة ببساطة، هي سبعة عشر نوعاً من الأمراض المعدية، كان يقتصر وجودها حتى وقت قريب على الدول النامية والفقيرة. وقد خصت هذه المجموعة من الأمراض بهذا اللقب لكونها تصيب في الغالب المجتمعات الأشد فقراً، وخصوصاً تلك القاطنة للمناطق الريفية، والنائية، أو مناطق الصراعات المسلحة، بالإضافة إلى التجمعات السكانية العشوائية المعروفة بمدن الصفيح. وتصيب حاليّاً الأمراض الاستوائية المهملة مليار شخص، أو واحداً تقريباً من كل ستة من أفراد الجنس البشري، وعلى رغم ذلك نجد أن من بين 1400 دواء وعقار جديد، تم اكتشافها خلال فترة ربع القرن الماضية، كان واحد في المئة فقط منها موجهاً لعلاج تلك الأمراض، وهو ما يظهر مدى الإهمال الذي تلقاه هذه الأمراض على صعيد الأبحاث الطبية، والدوائية، بالإضافة إلى الإهمال الذي تتعرض له في برامج الوقاية والمكافحة والعلاج. غير أن هذا الوضع من شأنه أن يتغير عما قريب في ظل المبادرات الإنسانية الدولية، مثل مبادرة الإمارات تجاه دودة غينيا، وبناء على ما أعلن عنه بداية هذا الأسبوع من إنشاء تحالف دولي يشمل العديد من الدول الغربية والنامية، والمنظمات الصحية الخيرية مثل مؤسسة "بيل ومليندا جيتس"، ومركز "كارتر"، ومؤسسة صندوق الاستثمار في الأطفال البريطانية، والمنظمات الدولية الأخرى كالبنك الدولي، ومنظمة الصحة العالمية، بالإضافة إلى ثلاث عشرة شركة من شركات الأدوية العملاقة متعددة الجنسيات، التي أعلنت عن عزمها التبرع بـ1,4 مليار جرعة علاجية سنوية، كما وافق بعضها على إتاحة اكتشافاته واختراعاته مجاناً للشركات الأخرى، بهدف تسريع عملية إيجاد علاج أو تطعيمات لهذه الأمراض المستعصية. ويسعى هذا التحالف للقضاء على مرض دودة غينيا، والجذام، والفلاريا اللمفاوية، والتراكوما المسببة للعمى، ومرض النوم، بحلول عام 2020، هذا بالإضافة إلى خفض معدلات الإصابة والتحكم في بقية الأمراض المهملة، مثل البلهارسيا، وعمى النهر، وغيرها، وهو أمر إذا ما تحقق، فسيعتبر نقلة تاريخية بحق، في صراع الجنس البشري مع أمراض دفع ثمناً فادحاً لها، إنسانيّاً واقتصاديّاً، منذ أن وطأت قدماه سطح هذا الكوكب.