في خضم الخلاف الدولي حول الموقف من الأحداث الجارية في سوريا منذ ثمانية أشهر، لازالت روسيا أقرب إلى سوريا وإلى موقف الحليف المساند، وقد تجلى ذلك في معارضتها إحالة الملف السوري إلى مجلس الأمن الدولي، وفي رفضها إصدار قرار من المجلس يتضمن دعوة الرئيس السوري إلى تسليم مقاليد الحكم لنائبه، كما طالبت جامعة الدول العربية أواخر الأسبوع المنصرم. وإن بدا هذا الموقف مفهوماً بالنظر للعلاقات التقليدية بين دمشق وموسكو، وكون الأولى أحد زبائن الصناعة العسكرية الروسية، علاوة على وجود قاعدة بحرية روسية في بانياس السورية على البحر الأبيض المتوسط... فإنه من ضمن خلفيات ذلك الموقف أيضاً حاجة موسكو الملحة إلى ما يصرف أنظار المجتمع الدولي عن الحراك الداخلي المطالب بإصلاحات ديمقراطية، والذي بدأ يجهر بصوته عالياً ضد "تزوير" الانتخابات النيابية الأخيرة، وضد الجهود المتواصلة لتمهيد الطريق أمام عودة بوتين إلى سدة الرئاسة. وإضافة إلى تلك العوامل والخلفيات، ربما يذكر المحللون السياسيون ذلك التطلع المتجدد لدى روسيا إلى لعب دور في قضايا منطقة الشرق الأوسط، بدءاً من الصراع العربي الإسرائيلي، مروراً بأزمة الملف النووي الإيراني، وليس انتهاءً بالحالة السورية التي باتت هي الأخرى تشكل ضغطاً على عصب الضمير العالمي. وللعب دور وازن في هذه المساحة المضطربة والمعقدة في آن معاً، فإن روسيا بحاجة للتعرف على خريطة كلية بأحداث المنطقة وتطوراتها الجارية، وما هي مقبلة عليه من تحولات، وكيف ينظر أهل المنطقة إلى المرحلة الحالية من تاريخها... وهو جهد يتجاوز حدود المهام الاعتيادية للسفراء والبعثات الدبلوماسية. لذلك فقد قرر الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف تعيين ممثل له في الشرق الأوسط، وأصدر يوم الاثنين الماضي مرسوماً بإيفاد ميخائيل بوجدانوف مبعوثاً رئاسياً خاصاً من جانبه إلى الشرق الأوسط. وقد شغل هذا المنصب في السابق ألكسندر سلطانوف الذي كان نائباً لوزير الخارجية قبل أن يحال للتقاعد أواسط العام الماضي، حيث حل محله في وزارة الخارجية بوغدانوف، بينما بقي المنصب الثاني شاغراً. بيد أن تطورات الأسابيع الأخيرة في المنطقة، لاسيما انسداد الموقف بين إيران والدول الغربية، ثم ما يبدو أنه تراجع واضح لفرص الحل العربي في سوريا، أمام تفاقم الاضطرابات وتزايد حدة القتل والقمع، وما يرافق ذلك من دعوات للتدخل الدولي، جعلت لكريملين يسارع نحو سد الفراغ القائم في ذلك المنصب منذ عدة أشهر، ويختار لشغله أحد أكفأ الدبلوماسيين الروس. ويعتبر بوجدانوف المولود عام 1952 أحد الدبلوماسيين المخضرمين في وزارة الشؤون الخارجية الروسية، حيث تخرج عام 1974 من معهد العلاقات الدولية بموسكو، التابع لوزارة الخارجية، والذي يعد مصنع الكوادر الدبلوماسية والسياسية الروسية منذ إنشائه عام 1944، حيث خرج منه آلاف الدبلوماسيين ورجال السياسة والإدارة والاقتصاد، من ضمنهم وزير الخارجية الروسي الحالي سيرغي لافروف نفسه، ورئيس أذربيجان إلهام علييف، والمديرة العامة لمنظمة "اليونسكو" إرينا بوكوفا، و14 رئيس حكومة في روسيا وخارجها علاوة على 30 وزيراً معروفاً. وقد تخرج بوجدانوف من المعهد والتحق بالخدمة الدبلوماسية في العام ذاته، أي خلال الحقبة السوفييتية، ليتنقل بين مصالح الجهاز المركزي للوزارة، قبل إرساله لوظائف دبلوماسية في السفارات السوفييتية بالخارج. وتعود معرفة بوجدانوف بالمنطقة العربية إلى عام 1975 حين عين مستشاراً ثانياً بالسفارة السوفييتية في اليمن الجنوبي، ومنها انتقل إلى بيروت عام 1977، أي أبان الحرب الأهلية اللبنانية، حيث بقي هناك حتى أشهر قليلة قبل الاجتياح الإسرائيلي الثاني لبيروت عام 1981. وهي الفترة التي شهدت ذروة النشاط الفلسطيني (السياسي والعسكري) في لبنان، ونشأت خلالها علاقات قوية بين موسكو والمنظمات الفلسطينية الثورية المسلحة. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، واصل بوجدانوف عمله في وزارة الشؤون الخارجية لجمهورية روسيا الاتحادية، حيث تقلد عدة مناصب مركزية، مثل دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عام 2002، بعد منحه رتبة سفير مفوض وفوق العادة عام 2001، وقبل تعيينه سفيراً في مصر عام 2004. ومن المؤكد أن وجوده كسفير في القاهرة، خلال أواسط العقد الأول من الألفية الثالثة، أتاح له التعرف عن كثب على كثير من ملفات السياسة العربية، سواء فيما يتعلق بالخيار التفاوضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والذي كانت "مصر -مبارك" تسعى لدفعه قدماً منذ مؤتمر مدريد عام 1991، أو فيما يتعلق بعودة الاستقطاب الإقليمي العربي على خلفية الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ولا شك أن خبرة السنوات التي أمضاها بوجدانوف في المنطقة، ستفيده كثيراً في فهم مجرياتها الحالية، وفي بلورة تصور روسي حول الملفات الملحة والأوْلى بالمعالجة في الوقت الحالي، خاصة فيما يتعلق بسوريا، والتي كانت هي ذاتها إحدى محطات مسيرته الدبلوماسية، حيث خدم فيها بين عامي 1983 و1989، أي خلال السنوات الست الأخيرة من الحرب الباردة، حين كانت العلاقات في أفضل حالاتها بين دمشق وموسكو. كما كانت تل أبيب أيضاً محطة ثانية له، لكن بين عامي 1997 و2002، أي في عهد "يلتسين -بوتين" الذي تعززت خلاله العلاقات الروسية الإسرائيلية. لكن بوجدانوف يعود الآن إلى المنطقة وقد تغيرت إلى حد كبير وبدت مختلفة عن حالها حين كان سفيراً في القاهرة أو تل أبيب، أو مستشاراً دبلوماسياً في بيروت أو دمشق، فـ"مبارك" لم يعد في الحكم، وكذلك الأسد الأب الذي يواجه حكم ابنه من بعده هزة غير مسبوقة. فيما غاب عرفات عن المشهد، ولا أحد من أعضاء فريقه اليوم يذكر "أوسلو". إنها تغيرات وتبدلات غير قليلة، تكاد تجعل كل الخبرات السابقة غير ذات فائدة في فهم الملفات الراهنة. وإلى ذلك، فربما لن يغيب عن بوجدانوف أن أياً من أسلافه السابقين في هذا المنصب، وآخرهم سلطانوف، قد تركوه جميعاً دون أن ترتبط أسماؤهم فيه بأي إنجاز دبلوماسي يذكر، فهو منصب المهمة المستحيلة! محمد ولد المنى