يبدو الجمع بين النساء والأقباط في عنوان واحد وفي تحليل واحد غريباً. وهو في الحقيقة ليس كذلك في ثقافة تصنيف المجتمع على أسس الطائفة أو الجنس وليس على أساس المواطنة. فالتصور الذي وراء مثل هذه التصنيفات غير المناسبة واحد: قسمة المجتمع الذي يرتبط أعضاؤه برباط واحد إلى أقلية وأغلبية طبقاً للطائفة، من أقباط ومسلمين، أو طبقاً للجنس، ذكراً وأنثى. وهو ما زال موجوداً في الهويات الشخصية الرسمية التي تصدرها الدولة وفي بطاقات الصعود أو النزول في المطارات. وهي قسمة لا تفيد في شيء. فماذا يهم إذا كان حامل الهوية الوطنية ذكراً أو أنثى للتعرف إلى شخصيته أو في معاملات البنوك، أو أقسام الشرطة أو المؤسسات التعليمية. فالمواطن أمام القانون العام لا جنس له، ذكراً كان أو أنثى. وفي عقود الزواج لا يحتاج المأذون للتعرف إلى شخصية الزوجين، أيهما ذكر أو أنثى. يكفي طريقة اللباس والزينة. فلا خوف من أن يعقد بين ذكرين أو أنثيين. ولا تحتاج المستشفيات للتعرف إلى جنس الحامل ذكراً أم أنثى. إنما هي العقلية الغربية المعتزة بنظامها الديمقراطي الذي يقوم على الأغلبية والأقلية حيث تحكم الأغلبية وتصبح الأقلية في المعارضة ثم تحكم الأقلية، عندما تصبح أغلبية، والأغلبية عندما تصبح أقلية في المعارضة. ثم انتقلت هذه القسمة إلى الدين، بروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس، وإلى سود وبيض في أميركا وإلى سكان أصليين ومهاجرين في الوطن الواحد. ثم انتقلت هذه الدراسات إلى الوطن العربي والعالم الإسلامي، لتقسيم أبناء الوطن الواحد إلى أقلية وأغلبية طبقاً للدين، مسلمين ومسيحيين، أو الطائفة، سُنة وشيعة، أو الجنس، ذكوراً وإناثاً، أو العِرق، عرباً وأكراداً وتركماناً وبربراً... إلخ. وربما كان ذلك طبيعيّاً في مجتمعات تأصل فيها مفهوم المواطنة ولا خطر فيها على تفتيت الأوطان. أما بالنسبة للدول الحديثة التي تكونت بعد حركات التحرر الوطني في القرن الماضي فما زالت المجتمعات فيها أقوى من الدول. ولم يقض فيها على الطائفية والعرقية والقبلية والعشائرية وكل ترسبات الماضي. يسقط الغرب فيها عقليته الكمية العددية ويحولها إلى ديانات وطوائف وأجناس. فإندونيسيا، وفق هذا المنطق، ليست دولة إسلامية، بل أغلبيتها من المسلمين. والعراق مكون من عدة طوائف وأعراق، من سنة وشيعة، أكراد وعرب وتركمان. وتركيا أغلبيتها من المسلمين مكونة من أتراك وأكراد. واليمن زيود وشوافع، ومصر أقباط ومسلمين، والسودان عرب وأفارقة، والمغرب العربي عرب وبربر. ولما كانت في الغرب أيضاً مشكلة في الأحوال الشخصية مثل صعوبة الطلاق وكان من عادات المجتمع هيمنة الرجل، على رغم الحداثة والتنوير خاصة في الولايات المتحدة الأميركية، فقد ظهرت حركات تحرير المرأة والحقوق النسوية. وانتقل الخطاب لدى المتغربين في مجتمعاتنا، فظهرت كتابات "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" تقليداً للنموذج الغربي فحوصرت من أنصار القديم على رغم أنه في مجتمعاتنا لدينا مشاكل في قانون الأحوال الشخصية الذي بقي كما هو عليه منذ أربعة عشر قرناً دون تحديثه طبقاً لتغيرات العصر وطبقاً للاجتهاد وأصوله في حدود ما تسمح به الشريعة المُطهرة، وكما وقع في بعض الحركات الإصلاحية الحديثة. ظل مفهوم الأقلية والأغلبية هو السائد اعتزازاً بالديمقراطية، فالعلاقة بينهما علاقة مقهور بقاهر، أقلية مقهورة وأغلبية قاهرة في الدين وفي الجنس. والهدف تفتيت المجتمع إلى فئات وطوائف وجماعات وكأن هذا الوطن لا وجود له ولا سيادة له ولا انتماء له. إنما الانتماء إلى الدين أو الطائفة، أو الجنس، أو العرق أو القبيلة، أو العشيرة، أو العائلة. فبعد حركات التحرر الوطني من الاستعمار والاحتلال ما زالت القوى الغربية تنكر على هذه الدول الوطنية وجودها، وعلى مجتمعاتها تكوينها الوطني. وتعاملها بمفاهيم التخلف وهي تدعي الحداثة. وتستمر مفاهيم التفتيت: صعيدي بحراوي، ريفي حضري، طبقاً للجهة، وتمزيق الوطن إلى جهات والتعامل مع الفئات الصغيرة وتنكر الوحدة الكبرى، الوطن. ليست الأنوثة أو الذكورة هوية. إنما هو تنوع في الطبيعة يقوم على التمييز والوحدة. والحب رابطة بينهما. فالتنوع طارئ والوحدة أصلية. وليس التمايز في الدين أصليّاً بل يعبر عن مراحل مختلفة لتطور الوعي الإنساني. الجوهر واحد وإن اختلفت الأشكال، القانون في اليهودية، والمحبة في المسيحية، والعدل في الإسلام. وليست الطائفة هوية سنة أو شيعة. إنما هو تنوع تاريخي فرضته الظروف الاجتماعية والسياسية للمجتمع. إنما الهوية هي الإنسانية التي لا يفرقها دين أو طائفة أو عرق أو جنس، الإنسان من حيث هو إنسان. وهو مشتق من الأنس أي الائتلاف مع الآخر ومحبته على عكس ما تنتهي إليه الطائفية واستقطابات مسألة الجندر من بغضاء وشحناء. المسلم والقبطي، الذكر والأنثى، كلاهما يعيشان على أرض واحدة، وينتميان إلى وطن واحد، يعملان فيه، ويتركان أثرهما عليه. يولدان ويموتان في رحابه. يحنان إليه حين الهجرة. هو الذكرى والتاريخ. وهو مصدر الإلهام الأدبي والفني. وما أكثر الأغاني الوطنية في تاريخ الغناء في مصر. وامرأة القائد "أم المصريين". تحولت في وجدان الشعب إلى محطة حافلات ومستشفى وحي. وفي تماثيل الاستقلال الوطني الرجل والمرأة معاً يرفعان العلم الوطني أو يمسكان بالمطرقة والسندان لتنمية المجتمع صناعيّاً وزراعيّاً. واسم يتردد كل يوم على كل لسان مئات المرات. بل إن المرأة بمفردها أحياناً ترمز للوطن كما هو الحال في تمثال "نهضة مصر"، ورمز للثورة كما هو الحال في رفع هدى الشعراوي النقاب أثناء ثورة 1919. فالوطن هو الجامع للمسلم والقبطي، للذكر والأنثى دون أقلية وأغلبية وكأنها قوى سياسية متنافسة على السلطة، تحددها أصوات الناخبين ويتدخل فيها الإعلام، حقيقة أو زيفاً. الوطنية هي الانتماء للوطن. وهي فضيلة تتجاوز استقطابات الأديان والطوائف والأجناس. قامت حركات التحرر الوطني باسم الوطن، مسلمين وأقباطاً، رجالاً ونساء على رغم الإحصائيات والتعدادات كم في الوطن من كل طائفة وجنس بناء على مقاييس متخلفة وفي حالة غياب مفهوم الوطنية، وسيادة التصور الكمي العددي الذي أفرزته الديمقراطيات الحديثة تغليباً لفريق على آخر باسم الأغلبية. وأحياناً تتحول الوطنية إلى تطرف قومي كما حدث في النازية والفاشية والصهيونية. تمتزج بالعنصرية والقوة والعدوان على الشعوب المجاورة أو استئصال شعوب من أرضها وإحلال شعب آخر محلها، كما فعلت الصهيونية في فلسطين. وسرعان ما تندحر لأن كل الأوطان تتساوى في حقها في الحرية والاستقلال. وأحياناً تطغى طائفة على حقوق طائفة أخرى إلى درجة الحروب بين الأديان والمذابح بين الطوائف. وسرعان ما تنتهي بنهاية مفهوم الطائفة لمصلحة المواطنة التي تتكون من عدة طوائف لا هويات. وتقوم حركات تحرير المرأة والحقوق النسوية مطالبة بالمساواة مع الرجل في حق التمثيل في الحياة العامة، والوظائف القيادية والعمل بالبرلمان وكل مظاهر الإدارة "مراتي مدير عام". وتحرير المرأة أساساً من سيطرة الرجل ثم من غلبة التقاليد الاجتماعية في المجتمعات الأبوية حتى تنتقل من "أمينة" إلى "سوسن" في ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة. والحقيقة أن الرجل والمرأة كلاهما في حاجة إلى تحرر، "سي السيد" قبل "أمينة". وهي ترسبات تاريخية وعادات اجتماعية تستند إلى موروث ثقافي متصل لم يتغير اعتماداً على الشريعة. وإذا كانت بعض الاتجاهات المحافظة تستند إلى تأويل لآيتين كريمتين لتدعيم التمايز بين الذكر والأنثى وهما (وَلَيْسَ الذكَرُ كَالأنثى)، وكذلك (لِلذكَر مِثلُ حَظ الأنثيَيْن(، فإن عشرات الآيات الأخرى تساوي بينهما في العمل الصالح في الدنيا (أَني لا أضِيعُ عَمَلَ عَامِل مِنْكمْ مِنْ ذكَرٍ أوْ أنثى)، و(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذكَر أََوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فلنحْيِيَنهُ حَيَاة طيِّبَة)، وفي الآخرة (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذكَر أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولَئِكَ يَدْخلونَ الجَنة). لا فرق بين الذكر والأنثى إلا بالسعي في العالم والكد فيه (وَمَا خَلَقَ الذكَرَ وَالأنثى. إِنَّ سَعْيَكمْ لشتى). وقد خلق الله الذكر والأنثى للتعارف كما خلق الشعوب (إِنا خلقناكمْ مِنْ ذكر وَأنثى وَجعلنَاكمْ شُعُوباً وَقبَائِلَ لِتَعَارَفوا). وقد كانت عادة اجتماعية تفضيل الذكر على الأنثى لمنفعته في الحروب والتجارة (ألكمُ الذكرُ وَلهُ الأنثى). وفي الإجماع كمصدر شرعي إذا اعترض واحد فقط فإنه يكون ناقصاً وليس تامّاً. فلا أغلبية ولا أقلية بل احترام للجميع على قدم المساواة. ولذلك نداء للمثقفين والباحثين أن يخرجوا موضوع النساء والأقباط من منطق الأقلية والأغلبية إلى منطق المواطنة.