يبدو أن حكومة باكستان المدنية التي تعيش علاقتها مع القضاء والجيش توتراً حاداً منذ فترة قررت اتخاذ خطوة إلى الوراء والانحناء أمام العاصفة التي تهدد بزعزعة استقرار البلاد. فقد سعى رئيس الوزراء، يوسف رضا جيلاني، إلى نزع فتيل التوتر مع الجهاز القضائي في محاولة منه للتهدئة ومنع دخول باكستان في مرحلة من الفوضى، وهكذا استطاع جيلاني ربح بعض الوقت واستمرار حكومته لمدة أطول في السلطة عندما وافق على المثول أمام المحكمة العليا التي كانت قد استدعته في وقت سابق لتوضيح فشل حكومته في تنفيذ قرار المحكمة الداعي إلى إعادة فتح ملف الفساد ضد الرئيس آصف علي زرداري والصادر قبل عامين. ورغم التجاهل الذي قابل به رئيس الحكومة قرارات المحكمة، فإنه تنازل في النهاية وظهر أمام هيئة القضاء في مسعى لتخفيف حدة التوتر ولبعث رسالة واضحة تفيد بأنه مستعد لتقديم تنازلات أخرى لتفادي الفوضى السياسية التي قد تدخلها البلاد في حال استمر الصراع بين الحكومة والقضاء. وبعد مثوله أمام المحكمة قرر القضاء تأجيل النظر في القضية إلى غاية الأول من فبراير المقبل، بحيث من المتوقع أن تبت المحكمة خلال هذا التاريخ في ما إذا كانت الحكومة برفضها فتح قضايا الفساد المرتبطة بالرئيس قد احتقرت المحكمة ومست بهيبتها. وحتى هذه اللحظة، ورغم التنازل البسيط من قبل رئيس الوزراء، ليس واضحاً بعد ما إذا كانت المحكمة ستأخذ محاولات التهدئة هذه في عين الاعتبار وتصدر حكماً لمصلحته. أما إذا أدانت المحكمة الحكومة المدنية بإهانة القضاء، فذلك سيفضي مباشرة إلى انتخابات مبكرة وخروج الحكومة من السلطة. وفي هذا النزاع مع الجهاز القضائي، برر جيلاني موقفه الرافض لإعادة التحقيق في ملف الفساد المتعلق بالرئيس بكون هذا الأخير محصن قانونياً، ومن ثم يتعذر ملاحقته قضائياً، وبأن الحصانة التي يتمتع بها تمنع النبش في ملفات الفساد والرشى التي تطارده، وكان الرئيس الباكستاني آصف زرداري قد أمضى سنوات طويلة في السجن بتهم الفساد التي تعود إلى التسعينيات، لاسيما تلك المرتبطة بتلقي عمولات ضخمة من شركة سويسرية. ومنذ أن أدانت محكمة سويسرية الرئيس زرداري وزوجته بوتو بتلقي رشى في العام 2003 لم يستطع السياسيان العودة مجدداً إلى باكستان، وفضلاً البقاء بعيداً خوفاً من الملاحقة القضائية. لكن برويز مشرف الذي كان يحكم البلاد وقتها وبضغط من الولايات المتحدة لتسليم السلطة إلى المدنيين قرر إصدار عفو رئاسي على زرداري وبوتر لتمهيد رجوعهما إلى البلاد وتولي السلطة خلفاً له. وفيما اغتيلت "بوتو" عام 2007 استطاع "زرداري" حشد التعاطف الشعبي والوصول إلى السلطة، غير أنه وبحلول 2009 قررت بعض منظمات المجتمع المدني في باكستان تقديم بلاغات إلى المحكمة العليا لإعادة فتح ملفات الفساد ومتابعة السياسيين الفاسدين، فما كان من القضاء، إلا أن ألغى قرار العفو السابق وأمر الحكومة بتحريك القضية، وفتح الملف بدءاً بمراسلة الحكومة السويسرية والمطالبة بالتحقيق مجدداً، بيد أن الجدل المحتدم بين الحكومة والقضاء ليس عنصر التوتر الوحيد الذي يسمم الحياة السياسية، بل دخل على الخط توتر آخر مع الجيش على خلفية المذكرة التي أرسلها مسؤول حكومي إلى الولايات المتحدة مطالباً إياها بالتدخل لمنع حدوث انقلاب عسكري. فبعد هذه الخطوة التي اعتبرها الجيش مساساً بالسيادة الوطنية ساندت المؤسسة العسكرية مساعي الجهاز القضائي ليس فقط في فتح ملف الفساد المرتبط بالرئيس، بل أيضاً للتحقيق في المذكرة المعلومة، بل وصل الحد بأحد المسؤولين الحكوميين إلى اتهام الجيش والقضاء بالتواطؤ لإسقاط الحكومة المدنية، وهو الأمر الذي زاد من غضب العسكر ودفعهم للاستماتة في فتح التحقيق بشأن المذكرة. وأمام هذا كله، يأتي مثول "جيلاني" أمام المحكمة محاولة واضحة منه لتخفيف الضغط على الحكومة وكسب المزيد من الوقت، كما أن الثقة التي نالتها الحكومة مؤخراً في تصويت بالبرلمان تنفي إمكانية استقالة الحكومة دون إدانة واضحة من القضاء الذي قد يجبرها على ذلك. هذا في الوقت الذي يصر فيه الجيش على اعتذار الحكومة وتوضيح موقفها من المذكرة التي اتهمت الجيش بالإعداد لانقلاب عسكري يقضي على الشرعية الديمقراطية. ولتبديد مخاوف الطرفين، هناك تقارير تشير إلى احتمال عقد لقاء وشيك بين "أشفق كياني" رئيس الوزراء والقائد العام للجيش، ومعهما رئيس الاستخبارات العسكرية، شجاع باشا، في مسعى لتخفيف التوتر وتجاوز الأزمة الحالية. وفيما يستمر الجدل ومعه التكهنات حول مصير الحكومة يواصل لاعب "الكريكيت" السابق والسياسي الحالي، عمران خان، إحراز التقدم وحشد التعاطف الشعبي، وقرر الدخول على خط الأزمة بدعوة وجهها حزبه، "تحريك إنصاف" إلى القضاء يحدثه فيها على استرداد ملايين الدولارات من الرشاوي التي تلقاها آصف زرداري عندما كانت زوجته رئيسة للوزراء، وهي الفترة التي تكاثرت فيها مزاعم حصول "زرداري" على عمولات ضخمة نقلها إلى حسابات بنكية في الخارج. ويرى المراقبون أنه في حال نُظمت انتخابات مبكرة بعد صدور قرار المحكمة سيكون المستفيد الأول عمران خان، الذي يحظى بشعبية كبيرة لدى الرأي العام الباكستاني.