كانت تلك لحظة لم يتوقعها بوتين على الإطلاق. ففي نوفمبر الماضي، وعندما كان رئيس الوزراء الروسي يحضر مباراة لفنون القتال في استاد "أوليمبسكي" بموسكو، وعندما تناول الميكروفون للإعلان عن اسم الفائز في إحدى المباريات، حدث مالم يكن متوقعاً: أصوات سخرية وتهكم تصدر عن المتفرجين. لكن ما حدث بعد ذلك كان أسوأ بكثير. ففي الرابع من ديسمبر تعرض حزبه "روسيا المتحدة" لضربة مدوية عندما انخفضت نسبة تأييده من 64 في المئة إلى ما دون50 في المئة، وهي نسبة يقال إنها لم تتحقق إلا بعد عمليات تزوير وغش واسعة النطاق. هذا علاوة على المظاهرات العارمة المضادة لبوتين إثر إعلان نتيجة الانتخابات، والتي خرج فيها عشرات آلاف الروس في أكبر تظاهرات تشهدها موسكو منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، كتعبير عن حقيقة أن الشعب الروسي قد فاض به الكيل بعد 12 عاماً من حكم بوتين شهد فيها أنواعاً من الكذب والخداع والنزاعات الدموية والتصفيات الجسدية، والغرور والتعالي من جانب النخبة الحاكمة. لكن كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ وإلى أين تتجه روسيا؟ سؤالان يجيب عنهما "انجوس روكسبيرج"، الصحفي البريطاني الشهير الذي عمل مراسلاً للصنداي تايمز في موسكو والذي عمل مستشاراً لفريق الاتصالات المنوط به كتابة خطابات بوتين، الموقع الذي أتاح له الاتصال بالدائرة الداخلية الضيقة في الكرملين، وذلك في كتابه "الرجل القوي: فلاديمير بوتين والصراع على روسيا"، والذي يبين فيه كيف تحول الحماس والإعجاب المبكر في الغرب بشخصية بوتين إلى النقيض، وكيف انقلب التفاؤل الذي صادف صعوده لسدة الحكم إلى تشاؤم. يقول "روكسبيرج" إن مهمته كانت تشمل مساعدة الكرملين على تجميل صورته في الخارج، وهي مهمة لم تكن سهلة، لاسيما بعد قتل آنا بوليتكوفسكايا الصحفية الروسية المناوئة لبوتين، واغتيال المعارض" اليكسندر ليتفينينكو" في لندن باستخدام مادة البولونيوم، ثم الحرب على جورجيا. ويقول المؤلف إن المسؤولين الروس ليس لديهم فكرة عن الطريقة التي تعمل بها الصحافة الغربية، ويعتقدون أنه يمكنهم شراء ولاء صحيفة في الغرب ودفعها للكتابة بشكل إيجابي عن بلادهم، ما دفعهم للتعاقد مع وكالة علاقات عامة في نيويورك تدعى "كيتشم" كانوا يدفعون لها مليون دولار شهرياً مقابل ذلك. ويقول المؤلف إن سوء التفاهم الذي يسود العلاقة بين روسيا الغرب ليس سببه روسيا فقط وإنما أيضاً الغرب الذي يتحمل نصيبه من المسؤولية عن العديد من الفرص الضائعة خلال العقد الأخير لتعزيز العلاقات مع بلد فائق الأهمية كروسيا. ويقول إن "الحرب الباردة الجديدة" مع روسيا ليست نتاجاً لسلوكيات بوتين الاستبدادية الصارمة، وسعيه المشروع لتحقيق المصالح الروسية، وإنما ترجع بذات القدر لانعدام الحساسية لدى أميركا وعدم مراعاتها مشاعر روسيا ووضعها على الساحة الدولية وما كان لها من صولة في سابق الأيام. ويؤكد المؤلف أن الغرب لم يكن ليتمكن من التكيف مع "عقد بوتين ما بعد الإمبريالية" ما لم يكن هو نفسه (الغرب) قد ارتكب سلسلة طويلة من الأخطاء والتجاوزات بحق روسيا؛ منها توسيع "الناتو" شرقاً، وبرنامج الدفاع الصاروخي عن القارة الأوروبية، وعدم رده الجميل لروسيا بعد أن قام بوتين بدعم الحرب على الإرهاب، علاوة على محاولاته الدائمة التدخل في الفناء الخلفي لروسيا الذي اعتبره بوتين خطاً استراتيجياً أحمر محظوراً على الغرب الاقتراب منه. ويعتقد المؤلف أن بوتين يؤمن إيماناً جازماً بأنه يضطلع بمهمة تاريخية تتمثل معالمها في استرداد العظمة الروسية، بينما الحقيقة هي أنه يقود دولة ينخرها الفساد، وعدم المساواة، وتمتلك قوات عسكرية تدهورت كثيراً عما كانت عليه في الحقبة السوفييتية، وينهار عقدها الاجتماعي الذي حكم بوتين بمقتضاه لسنوات، وهو "اعطني حريتك مقابل حصولك على المزيد من الرخاء"، بعد أن ضاق الروس ذرعاً بحكامهم الطغاة وحاشيتهم من رجال الأعمال والإعلام. ويؤكد أن بوتين وفريقه ما زالوا يعيشون في عالم تسوده أوهام الـ"كي. جي. بي": فجميع الدبلوماسيين والصحفيين الغربيين جواسيس، وكل خطوة من جانب الغرب هي جزء من مؤامرة أو خطة لإضعاف روسيا! ويرى أن بوتين رغم ذكائه وإلمامه بالكثير من المعلومات، فإنه يحمل قدراً كبيراً من الجهل تجاه جوانب الحياة الغربية، وأنه ازداد بعداً عن الواقع، كما تبين من خلال إجابته على سؤال في برنامج حواري أذاعه التلفزيون الروسي وصف فيه من خرجوا للتظاهر ضده بأنهم ليسوا سوى أدوات في أيدي الغرب، وهي تهمة لن تضعف المعارضة ضده، بل قد تؤججها خلال فترة رئاسته القادمة. سعيد كامل -------- الكتاب: الرجل القوي: فلاديمير بوتين والصراع على روسيا المؤلف: انجوس روكسبيرج الناشر: آي.بي.تاوريس تاريخ النشر: 2012