حلت أمس الذكرى السنوية الأولى لثورة 25 يناير في أجواء أبعد ما تكون عن تلك التي أحاطتها على كل صعيد تقريباً. فقد حققت هذه الثورة تغييراً يختلف المصريون ليس فقط على تقدير المدى الذي بلغه، ولكن على تقييم النتائج التي ترتبت عليه حتى الآن أيضاً. ويرى بعضهم أنها حققت الكثير من أهدافها منذ تنحي "مبارك" في 11 فبراير 2011، فيما يرى بعض آخر أنها لم تحقق أكثر من إبعاد رأس النظام أو أن ما أنجزته يظل أقل مما استهدفته. وهذا خلاف بين من يدافعون عنها دون غيرهم. ولكن هناك من كانوا معها وتغير موقفهم. وهم يرون الآن أن الأوضاع صارت أسوأ بعدها. ويختلف هؤلاء بدورهم بشأن ما إذا كانت المسؤولية تقع على عاتق الثوار الذين لم يفسحوا مجالاً للبناء، أم يتحملها من لم يكفوا عن المطالب الفئوية فملأوا البلاد اعتصاماً وإضراباً وتظاهراً. غير أن أكثر ما ينبغي أن يلفت الانتباه في التفاعلات الجارية الآن في الذكرى الأولى لثورة 25 يناير هو الجدل حول إمكان استمرارها وبأية كيفية أو الحاجة إلى "ثورة ثانية". ورغم أن هذا الجدل الذي يحصر العمل الثوري في الشارع يدور في دوائر محدودة معظمها في حركات وائتلافات شبابية، فهو يثير قلقاً لدى قطاع واسع من الجمهور يرى أن الأولوية هي العمل والبناء بعد التئام البرلمان المنتخب في اقتراع حر للمرة الأولى منذ نحو ستة عقود. وإذا كان التحول إلى العنف خطراً على مستقبل مصر، فهو يسيء في الوقت نفسه إلى ثورة 25 يناير ويؤثر سلباً في صورتها التي أثارت إلهاماً في بعض بلاد العالم وأدت إلى الاحتفاء بها في كثير من المنتديات والمؤسسات ذات الثقل، وآخرها جامعة نيويورك التي نظمت مؤتمراً حولها في بداية يناير الجاري. فقد قدمت هذه الثورة نموذجاً للاحتجاج السلمي منذ أن بدأت مظاهراتها الأولى ظهر يوم 25 يناير 2011 رافعة شعار "سلمية... سلمية". وكانت الدعوة إلى هذه المظاهرات سابقة على نجاح الثورة التونسية ومغادرة بن علي البلاد قبل 11 يوماً من ذلك التاريخ (14 يناير). غير أن الهدف الأساسي من مظاهرات 25 يناير كان التعبير عن الاحتجاج على بطش جهاز الشرطة الذي بلغ أوجه. فقد فاض الكيل بكثير من المصريين، وخصوصاً أجيالهم الجديدة، الذين شعر عدد كبير منهم بأن كلاً منهم أو ابنه معرَّض للقتل مثل الشاب السكندري خالد سعيد الذي أجهز عليه شرطيان سريان خلال محاولة القبض عليه في إحدى مقاهي "الإنترنت" في مايو 2010. كانت الدعوة، إذن، إلى الاحتجاج على بطش الشرطة وقهرها في يوم عيدها السنوي (25 يناير). لكن الثورة التونسية مدَّت الداعين إلى ذلك الاحتجاج، ثم المشاركين فيه، بروح جديدة. ومع اقتراب المساء في ذلك اليوم، بدا المشهد موحياً بأنه سيكون مختلفاً عن أي احتجاجات سابقة، وعما حدث في تونس من حيث التفاصيل. فلم تكن المظاهرات في 25 يناير عفوية بخلاف ما حدث في تونس يوم 18 ديسمبر 2010 عندما بدأ شباب في الخروج إلى الشارع في مدينة سيدي بوزيد تضامناً مع الشاب محمد البوعزيزي الذي أضرم النار في نفسه في اليوم السابق (17 ديسمبر). لكن ما جمع الحالتين التونسية والمصرية هو أن الاحتجاج فيهما ظل سلمياً لم يتخلله إلا نزر يسير من العنف المدني رداً على القمع وليس منهجاً للاحتجاج. فقد سعى المتظاهرون يوم 25 يناير إلى تجنب أي صدام مع قوات الأمن، ووجدت دعوتهم استجابة شعبية لا سابق لها، ساعدتهم في كسر الأطواق الأمنية عبر التحامهم بالناس. فكان إصرارهم قوياً على سلمية احتجاجهم. وعندما بدأت القوات في استخدام العصي والهراوات، جاء الهتاف سريعاً "سلمية... سلمية"، حتى لا يتورط أحد من المتظاهرين أو الأهالي المتعاطفين معهم في الرد. ولم تحدث إلا اشتباكات محدودة عند عدد من مداخل ميدان التحرير، وخصوصاً تلك القريبة من مجلس الوزراء ووزارة الداخلية عندما اضطر متظاهرون إلى الدفاع عن النفس. ومع ذلك كان شعار "سلمية... سلمية" يلاحق كل من يُستدرج إلى الرد على عنف الأمن بشيء يسير منه، حتى بعد أن اشتد هذا العنف عندما ظهرت "فرق الكاراتيه" الأمنية المدربة جيداً. ولم يحدث عنف محدود يوم 25 يناير إلا في مدينة السويس، عندما هاجم المتظاهرون قسم شرطة سعياً إلى إخراج المعتقلين فيه بعد قتل ثلاثة منهم. لكن عنف الشرطة الشديد في التعامل معهم أجَّج غضبهم فأضرموا النار في القسم. غير أن حرق بعض المنشآت التي تمثل رموز السلطة كان استثناءً، رغم أنه بدأ في مصر في اليوم الأول بينما لم يحدث مثله في تونس إلا في اليوم التاسع عشر للثورة (5 يناير) عندما اشتد الغضب وبلغ ذروته في مدينة تالة حيث أحرق المتظاهرون مقراً للحزب الحاكم ومبنى تابعاً للشرطة. غير أن الرد العنيف على إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين ظل محدوداً حتى يوم 28 يناير. كان ذلك اليوم (جمعة الغضب) هو الأكثر عنفاً من جانب قوات الأمن التي أفرطت في استخدام الرصاص الحي، إلى جانب القنابل المسيلة للدموع. وسقط يومها معظم شهداء الثورة الذين يزيد عددهم على الثمانمائة. ولم يرد المتظاهرون على الاستخدام المفرط للقوة المسلحة إلا في حالات محدودة وبما تيسر لهم من أدوات مقاومة مدنية بسيطة وخصوصاً الحجارة والعصي. وكان الرد العنيف الذي يتجاوز هذه الحدود هو حرق بعض رموز السلطة. فما أن انسحبت قوات الشرطة من الشوارع بعد ظهر ذلك اليوم حتى شن متظاهرون هجمات لحرق عدد من مقرات الحزب الوطني الحاكم حينئذ، في مقدمتها مقره المركزي الكبير في وسط القاهرة، وعدد من أقسام الشرطة، في الوقت الذي بات الوضع مهيأ لأعمال سلب ونهب قام بها لصوص وبلطجية محترفون. ولذلك شكَّل الشباب لجاناً شعبية للدفاع عن أحيائهم وشوارعهم، في الوقت الذي نجح المحتجون في محاصرة العنف وإنهائه والمحافظة على سلمية الثورة التي أبهرت العالم بصورتها السلمية. وهذا هو الدرس الذي ينبغي استلهامه في ذكراها الأولى للمحافظة على صورة تقدم نموذجاً سلمياً يمكن أن يخلّده التاريخ.